بعد عام على الحرب... هل باتت روسيا أكثر أمناً؟

الفضاء الإقليمي خائف من طموحات الكرملين... و«الأطلسي» يتمدد على الحدود

بعد عام على الحرب... هل باتت روسيا أكثر أمناً؟
TT

بعد عام على الحرب... هل باتت روسيا أكثر أمناً؟

بعد عام على الحرب... هل باتت روسيا أكثر أمناً؟

مع انقضاء عام كامل على انطلاق العمليات العسكرية في أوكرانيا، تبدو التساؤلات المطروحة حول حجم إنجازات، أو خسائر الكرملين، على الصعيدين الإقليمي والدولي الأكثر صعوبة وحساسية. المواجهة الكبرى التي اشتعلت نيرانها منذ لحظة توغل الدبابات الروسية في أراضي البلد الجار قبل عام، حملت عنواناً بارزاً وعريضاً حول «اضطرار موسكو إلى الدفاع عن مصالحها وأمنها الاستراتيجي» في مواجهة التحديات التي طرحها تمدد حلف شمال الأطلسي على مقربة من أراضي روسيا، مع تفاقم «المخاوف» من تحول أوكرانيا إلى رأس حربة لتطويق روسيا عسكرياً وأمنياً.
هذا العنوان سيطر على تبريرات قرار الحرب، مع رزمة من الأهداف المباشرة، بينها الدفاع عن «أراضي روسيا التاريخية» و«إنقاذ» سكان دونباس من سيطرة «النازيين الجدد». لكن، مع مرور عام على المواجهة التي سرعان ما تحولت بحسب التعبير الروسي إلى «حرب عالمية تستهدف وجود روسيا»، يبدو المشهد أكثر غموضاً والتباساً على صعيد الوضع الإقليمي، وفي إطار البحث الدائم عن حلول لمتطلبات روسيا على صعيد ضمان الأمن الاستراتيجي.
بعبارة أخرى، يطرح السؤال: هل غدت روسيا أكثر أمناً بعد عام على المواجهة الكبرى؟
لقد اتضح من مجريات القتال حجم التعثر الميداني، وفشل خطط «الحرب الخاطفة»، ما دفع محللين غربيين إلى تأكيد أن حرب أوكرانيا أظهرت أن «روسيا أقل خطراً مما كان يعتقد الغرب».
زاد الأمر وضوحاً بعد اضطرار موسكو إلى التراجع في مناطق مهمة مثل خيرسون الاستراتيجية، الملاصقة لشبه جزيرة القرم، واتضاح أن القوات الروسية التي ذهبت إلى أوكرانيا لـ«تحرير دونباس» وتمتلك جيشاً مهماً من الانفصاليين الموالين لها في المنطقة، ما زالت بعيدة عن إخضاع إقليم دونيتسك، وفشلت في إخضاع زابوريجيا، وتواجه هجمات مضادة قوية منذ أشهر في لوغانسك، وهذه هي المناطق الأربع التي قامت روسيا بضمها رسمياً؛ ما يعني أنها انتقلت من موقع الهجوم إلى الدفاع عن «جزء من أراضيها»، وفقاً لتوصيف الرئيس فلاديمير بوتين.

تمدد الأطلسي
مع هذا التعثر، عكس تركيز الجهد العسكري لحلف شمال الأطلسي على مقربة من حدود روسيا، ونشر قوات بشكل غير مسبوق في أوروبا الشرقية، فضلاً عن مسار انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف ما يعني تحويل بحر البلطيق إلى «بحيرة أطلسية» لجهة السيطرة والانتشار، وتطويق الحضور الروسي الذي يغدو أكثر ضعفاً فيها. هنا برزت دلالات أخرى مهمة دفعت إلى زيادة التساؤلات عن مدى نجاح موسكو في تحقيق أهدافها، وخصوصاً في الشق المتعلق بـ«حماية» الجبهة الغربية من تقدم «الأطلسي».
لا يخفى أن انضمام فنلندا والسويد المحتمل للناتو يشكل إضافة مهمة للغاية للناتو؛ فكل منهما تملك قوات عسكرية محترفة، والقدرة على حشد أكثر من مليون جندي احتياط خلال أيام قليلة؛ إذ يفرض البلدان نظام الخدمة العسكرية الإلزامية، ويمتلكان صناعات عسكرية متقدمة، ويوفران قدرات دفاعية قيمة، بالإضافة لموقعهما الاستراتيجي. وتملك فنلندا حدوداً برية مع روسيا في الشمال الغربي على امتداد نحو 1300 كلم. كما أنهما تزيدان من مساحة سيطرة الناتو البحرية في بحر البلطيق.

تكلفة باهظة
أيضاً، يؤدي قبول الناتو انضمام الدولتين الإسكندنافيتين إلى تطويق عسكري على روسيا من جهة الشمال الغربي. وسيزيد بشكل ملموس القدرات العسكرية للناتو في المنطقة، خاصة في مجالي جمع المعلومات الاستخباراتية والاستطلاعية، ويعزز مواقع القوات الجوية وكذلك البحرية للناتو.
وفي مواجهة هذا التطور، بدأت روسيا تطبيق خطط لنشر قواتها المسلحة مع نقل مجموعات كبيرة منها إلى الجناح الشمالي الغربي. ومن المتوقع في هذا السياق أن تنشر القيادة الروسية في شمال غربي البلاد مجموعات إضافية من القوات البرية والقوات الجوية الفضائية ونظام الدفاع الجوي والأسلحة الصاروخية، إضافة إلى تعزيز أسطول البلطيق. وفي هذا الصدد، أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في مايو (أيار) الماضي، عن اتخاذ إجراءات عسكرية روسية جديدة على الحدود الغربية؛ رداً على التحديات الأمنية الجديدة. بينها تحسين تشكيلات القوات المسلحة في المنطقة وإنشاء 12 وحدة عسكرية جديدة فيها. يعني هذا التوجه زيادة تكلفة المواجهة عسكرياً واقتصادياً على روسيا.
أيضاً، يعزز قرار ضم فنلندا والسويد التوجه العام نحو تآكل مجموعة الدول المحايدة في أوروبا، وحصرها في 3 بلدان هي النمسا وسويسرا وآيرلندا، وفي حال استمرار الوتيرة الحالية لتغيرات الأوضاع الأمنية في المنطقة، لا يستبعد أن تتخلى هذه الدول عن وضعها المحايد.
العنصر الآخر اللافت في الحصيلة الروسية خلال حرب أوكرانيا، يكمن في الوضع المستجد في الفضاء السوفياتي السابق. وقد أظهرت الحرب هشاشة التحالفات التي أقامتها موسكو في محيطها الإقليمي، على المستويات العسكرية والسياسية والأمنية، بل الأسوأ من ذلك، أنها أظهرت تراجع مواقع موسكو ونفوذها الإقليمي على خلفية تعاظم المخاوف في المنطقة من طموحات الكرملين السياسية والعسكرية.

الفضاء الإقليمي خائف
خلال عام 2022، تم عقد قمتين لرابطة الدول المستقلة، وقمتين لمنظمة الأمن الجماعي، واجتماعين للاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وقمة واحدة لمجموعة «منظمة شانغهاي للتعاون»، برز خلال كل تلك اللقاءات الجهد الروسي المكثف والموجه إلى حشد التأييد لسياسات موسكو أو في حالات أخرى لتجاوز ملفات خلافية برزت بقوة بسبب حرب أوكرانيا، مع بلدان ظلت حليفة لروسيا على مدى العقود الثلاث السابقة مثل كازاخستان وطاجكستان وقيرغيزستان. لكن المحصلة كانت محدودة للغاية، وباستثناء بعض الإجراءات الاقتصادية والتجارية المشتركة، وبعض الاتفاقيات على مواجهة مخاطر مشتركة مثل التهديد الإرهابي المحتمل من أفغانستان، أو التحول في حالات محدودة للتعامل بالعملات الوطنية، فقد فشلت هذه القمم في تبني مواقف واضحة تدعم المواقف الروسية.
لقد سعت غالبية بلدان الفضاء السوفياتي السابق إلى النأي بنفسها عن تأثيرات الحرب الروسية على أوكرانيا، وتبنت كلها (باستثناء بيلاروسيا) مواقف تتحفظ على التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وإن كان بعض هذه البلدان لم يذهب بعيداً لتوجيه إدانة علنية واضحة لكن مواقفها اشتركت في عدم دعم موسكو، كما ظهر أكثر من مرة في تصويتات الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرارات أدانت موسكو.
وبدا أن النخب الحاكمة في المنطقة واجهت صعوبات في تحديد المخاطر والفرص، والموازنة بينها. فجميع هذه البلدان خرجت من العباءة السوفياتية في ذات الفترة التي استقلت فيها أوكرانيا، ولدى بعضها مشكلات مع الأقليات الروسية التي تحمل جنسيتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومعظمها مرتبط بعلاقات شراكة اقتصادية وتجارية مع روسيا، وجزء منها عضو في تحالفات اقتصادية وعسكرية مع موسكو. وإضافة إلى مخاوف من تكرار سيناريو دونباس أو القرم، فإن الأوضاع الاقتصادية تشكل أحد أخطر التحديات المباشرة، إضافة إلى تحديات المحافظة على تماسك المجتمعات الهشة في معظم هذه البلدان. لقد راقبت البلدان «الحليفة» الأساسية لموسكو كيف بدت موسكو معزولة دولياً من دون أن تسعى إلى إبداء أي قدر من الدعم السياسي لها.
والأكثر من ذلك، أن بعضها، مثل كازاخستان التي كانت دائماً الحليف الأقرب للكرملين، ذهب إلى اتخاذ مواقف علنية صريحة ضد ضم المناطق الأوكرانية وضد العملية العسكرية الروسية، ما أسفر عن توتر في العلاقات سعت موسكو إلى التغلب عليه لاحقاً وكسر الجمود من بوابة التعاون الاقتصادي التجاري، وهو الملف الملحّ بالنسبة إلى آستانة.

بيلاروسيا... الحليف الوحيد للكرملين
وفي حالات أخرى، لم تنجح حتى محاولات موسكو لترتيب آليات تجارية مشتركة، مثل تنفيذ الاتفاقات الموقعة سابقاً على التعامل بالعملات الوطنية، أو إطلاق عمل بنظام بطاقات الدفع المباشر «مير» الروسي، الذي سرعان ما تراجعت عنه بعض البلدان مثل طاجكستان وأذربيجان. من بين جميع بلدان رابطة الدول المستقلة، فقط بيلاروسيا دعمت الموقف الروسي بشكل علني وواضح. والأكيد أن الظروف السياسية والاجتماعية ساهمت في تبلور هذا الموقف الذي كان يمكن أن يكون مغايراً، لولا مواجهة مينسك تطورات داخلية على خلفية الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها البلاد وكادت تطيح بحكم الرئيس ألكسندر لوكاشينكو؛ إذ فقد الرئيس لوكاشينكو عملياً قدرته على المناورة بعد أن كاد يتم الإطاحة بنظامه في مرحلة الاحتجاجات الواسعة في خريف عام 2020، واتهمت مينسك الغرب بتأجيج محاولات «الثورة الملونة» في البلاد. في المقابل أظهر لوكاشينكو استعداداً حازماً للقتال من أجل الحفاظ على سلطته ولعب الدعم الروسي دوراً كبيراً في ذلك. كان هذا هو العامل الرئيسي الذي دفع لوكاشينكو المحاصر باتهامات غربية واسعة بانتهاكات لحقوق الإنسان، وبنية اجتماعية هشة بسبب القمع العنيف للاحتجاجات، إلى إبداء الدعم الواضح لروسيا، والذي وصل إلى درجة السماح بشن العملية العسكرية من أراضي بلاده، وتشكيل مجموعة مشتركة من القوات مع روسيا على طول الحدود الغربية وإنشاء مظلة دفاع جوي مشتركة شمال أوكرانيا.

احتمال اتساع جبهة الحرب
قد تكون مولدافيا أفقر بلدان أوروبا، أحد أكثر الأطراف المحيطة بروسيا ترجيحاً للانخراط المباشر في الحرب، خصوصاً مع تصاعد لهجة المطالبة أخيراً بانسحاب روسيا من هذا البلد. ظروف هذا البلد مطابقة تماماً لظروف أوكرانيا، لجهة التوجه نحو الغرب ومحاولات الاندماج مع أوروبا، والسعي إلى إنقاذ البلاد من تقسيم يبدو محتوماً إلى شطرين؛ أحدهما موالٍ لموسكو في إقليم بريدنوستروفيه الانفصالي الذي تحتفظ فيه روسيا بقوات حفظ سلام هي عملياً قوات للتثبت من عدم قدرة كيشينيوف على استعادة السيطرة عليه عبر استخدام القوة، فضلاً عن عناصر متطابقة في ملف منح الجنسية الروسية للمقيمين فيه لتبرير أي عملية محتملة لـ«الدفاع عن مواطنين روس».
والأهم من ذلك، أقدار الموقع الجغرافي لمولدافيا بالقرب من أوكرانيا، ومنذ بداية الحرب برزت مخاوف من التقدم الروسي نحو أوديسا في جنوب غربي أوكرانيا، والسيطرة على هذا الميناء المهم على البحر الأسود، ما يعني أن الهدف اللاحق للكرملين هو مد نفوذه وبسط سيطرة مطلقة على الإقليم المجاور وهو بريدنوستروفيه. تزايدت المخاوف المولدافية، بعد صدور تصريحات عن النخب العسكرية الروسية بأن مكسب السيطرة الروسية على الشواطئ الجنوبية لأوكرانيا على البحر الأسود لن يكتمل على الصعيد الاستراتيجي إلا بضم مناطق شرق مولدافيا؛ لإحكام النفوذ الروسي على المنطقة. وبالتأكيد فإن مولدافيا باتت تشعر أن مصيرها كدولة مستقلة يبدو معلقاً حالياً بمصير العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
مغامرة بوتين في أوكرانيا... أمام الامتحان
مستقبل الحرب... واحتمالات توسعها وخروجها عن السيطرة
كيف أساءت روسيا تقدير موقف ألمانيا؟
أوروبا... تساؤلات حول مآلات الدعم لأوكرانيا
الأزمة... والدور «المشلول» لمجلس الأمن
الكرملين أمام انتصار بعيد... وهزيمة مستحيلة
بوتين «معزول» عالمياً وأمام «طريق مسدود» ... وروسيا خسرت أوكرانيا «إلى الأبد»
زيلينسكي... الممثل الهزلي لعب أدواراً كوميدية بحضور بوتين
هل أعادت الحرب الحياة إلى «الناتو» أم أيقظته «مرحلياً»؟


مقالات ذات صلة

فريق ترمب يريد الوصول إلى «ترتيب» بين روسيا وأوكرانيا من الآن

العالم عناصر من خدمة الطوارئ الأوكرانية تخمد حريقاً شب في مبنى نتيجة قصف روسي على دنبيرو (خدمة الطوارئ الأوكرانية - أ.ب)

فريق ترمب يريد الوصول إلى «ترتيب» بين روسيا وأوكرانيا من الآن

أعلن مايك والتز، المستشار المقبل لشؤون الأمن القومي الأميركي، أن فريق ترمب يريد العمل منذ الآن مع إدارة الرئيس بايدن للتوصل إلى «ترتيب» بين أوكرانيا وروسيا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا صحافيون يلتقطون صوراً لبقايا صاروخ استهدف منطقة دنيبرو في مركز لتحليل الطب الشرعي بمكان غير محدد بأوكرانيا الأحد (أ.ب)

موسكو تؤكد عزمها الرد على التصعيد الأميركي «غير المسبوق»

أكدت موسكو، الأحد، عزمها الرد على ما سمّته التصعيد الأميركي «غير المسبوق»، فيما دعا الرئيس الأوكراني إلى تعزيز الدفاعات الجوية لبلاده بعدما أسقطت وحدات الدفاع…

«الشرق الأوسط» (موسكو - كييف)
أوروبا القوات الروسية تتقدم بأسرع وتيرة بأوكرانيا منذ بدء الغزو في 2022 (تاس)

تقارير: روسيا تقيل قائداً عسكرياً في أوكرانيا بسبب تقارير مضللة

قال مدونون ووسائل إعلام روسية إن موسكو أقالت جنرالاً كبيراً في أوكرانيا لتقديمه تقارير مضللة عن تقدم في الحرب، بينما يحاول وزير الدفاع إقصاء القادة غير الأكفاء.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
العالم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ.ب)

الكرملين: عقيدتنا النووية المحدَّثة إشارة إلى الغرب

قال الكرملين، الأحد، إن موسكو يجب أن ترد على التصعيد غير المسبوق الذي أثارته واشنطن، بسماحها لأوكرانيا باستخدام صواريخ بعيدة المدى يمكن أن تصل إلى قلب روسيا.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
العالم الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون يسير أمام عدد كبير من جنود بلاده (د.ب.أ)

واشنطن: القوات الكورية الشمالية ستدخل الحرب ضد أوكرانيا «قريباً»

أعلن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن اليوم (السبت) أن بلاده تتوقع أن آلافاً من القوات الكورية الشمالية المحتشدة في روسيا ستشارك «قريباً» في القتال.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

لماذا يثير الحلف النووي الروسي - الصيني المحتمل مخاوف أميركا وحلفائها؟

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
TT

لماذا يثير الحلف النووي الروسي - الصيني المحتمل مخاوف أميركا وحلفائها؟

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)

يمثل الصعود العسكري للصين، وبخاصة برنامج تحديث ترسانتها النووية، هاجساً قوياً لدى دوائر صناعة القرار والتحليل السياسي والاستراتيجي في الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل التقارب المزداد بين بكين، وموسكو التي تلوح بمواجهة عسكرية مباشرة مع الغرب على خلفية الحرب التي تخوضها حالياً في أوكرانيا.

وفي تحليل نشرته مجلة «ناشونال إنتريست» الأميركية، يتناول ستيفن سيمبالا أستاذ العلوم السياسية في جامعة براندواين العامة بولاية بنسلفانيا الأميركية، ولورانس كورب ضابط البحرية السابق والباحث في شؤون الأمن القومي في كثير من مراكز الأبحاث والجامعات الأميركية، مخاطر التحالف المحتمل للصين وروسيا على الولايات المتحدة وحلفائها.

ويرى الخبراء أن تنفيذ الصين لبرنامجها الطموح لتحديث الأسلحة النووية من شأنه أن يؤدي إلى ظهور عالم يضم 3 قوى نووية عظمى بحلول منتصف ثلاثينات القرن الحالي؛ وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين. في الوقت نفسه، تعزز القوة النووية الصينية المحتملة حجج المعسكر الداعي إلى تحديث الترسانة النووية الأميركية بأكملها.

وأشار أحدث تقرير للجنة الكونغرس المعنية بتقييم الوضع الاستراتيجي للولايات المتحدة والصادر في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إلى ضرورة تغيير استراتيجية الردع الأميركية للتعامل مع بيئة التهديدات النووية خلال الفترة من 2027 إلى 2035. وبحسب اللجنة، فإن النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة والقيم التي يستند إليها يواجه خطر نظام الحكم المستبد في الصين وروسيا. كما أن خطر نشوب صراع عسكري بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا يزداد، وينطوي على احتمال نشوب حرب نووية.

ولمواجهة هذه التحديات الأمنية، أوصت اللجنة الأميركية ببرنامج طموح لتحديث الترسانة النووية والتقليدية الأميركية، مع قدرات فضائية أكثر مرونة للقيام بعمليات عسكرية دفاعية وهجومية، وتوسيع قاعدة الصناعات العسكرية الأميركية وتحسين البنية التحتية النووية. علاوة على ذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى تأمين تفوقها التكنولوجي، وبخاصة في التقنيات العسكرية والأمنية الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية وتحليل البيانات الكبيرة، وفقاً لما ذكرته وكالة الأنباء الألمانية.

ولم يقترح تقرير اللجنة أرقاماً دقيقة للأسلحة التي تحتاجها الولايات المتحدة ولا أنواعها، لمواجهة صعود الصين قوة نووية منافسة وتحديث الترسانة النووية الروسية. ورغم ذلك، فإن التكلفة المرتبطة بتحديث القوة النووية الأميركية وبنيتها التحتية، بما في ذلك القيادة النووية وأنظمة الاتصالات والسيطرة والدعم السيبراني والفضائي وأنظمة إطلاق الأسلحة النووية وتحسين الدفاع الجوي والصاروخي للولايات المتحدة، يمكن أن تسبب مشكلات كبيرة في الميزانية العامة للولايات المتحدة.

في الوقت نفسه، فالأمر الأكثر أهمية هو قضية الاستراتيجية الأميركية والفهم الأميركي للاستراتيجية العسكرية الصينية والروسية والعكس أيضاً، بما في ذلك الردع النووي أو احتمالات استخدامه الذي يظهر في الخلفية بصورة مثيرة للقلق.

في الوقت نفسه، يرى كل من سيمبالا صاحب كثير من الكتب والمقالات حول قضايا الأمن الدولي، وكورب الذي عمل مساعداً لوزير الدفاع في عهد الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، أنه من المهم تحديد مدى تنسيق التخطيط العسكري الاستراتيجي الروسي والصيني فيما يتعلق بالردع النووي والبدء باستخدام الأسلحة النووية أو القيام بالضربة الأولى. وقد أظهر الرئيسان الصيني شي جينبينغ والروسي فلاديمير بوتين، تقارباً واضحاً خلال السنوات الأخيرة، في حين تجري الدولتان تدريبات عسكرية مشتركة بصورة منتظمة. ومع ذلك فهذا لا يعني بالضرورة أن هناك شفافية كاملة بين موسكو وبكين بشأن قواتهما النووية أو خططهما الحربية. فالقيادة الروسية والصينية تتفقان على رفض ما تعدّانه هيمنة أميركية، لكن تأثير هذا الرفض المشترك على مستقبل التخطيط العسكري لهما ما زال غامضاً.

ويمكن أن يوفر الحد من التسلح منتدى لزيادة التشاور بين الصين وروسيا، بالإضافة إلى توقعاتهما بشأن الولايات المتحدة. على سبيل المثال، حتى لو زادت الصين ترسانتها النووية الاستراتيجية إلى 1500 رأس حربي موجودة على 700 أو أقل من منصات الإطلاق العابرة للقارات، سيظل الجيش الصيني ضمن حدود معاهدة «ستارت» الدولية للتسلح النووي التي تلتزم بها الولايات المتحدة وروسيا حالياً. في الوقت نفسه، يتشكك البعض في مدى استعداد الصين للمشاركة في محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، حيث كانت هذه المحادثات تجري في الماضي بين الولايات المتحدة وروسيا فقط. ولكي تنضم الصين إلى هذه المحادثات عليها القبول بدرجة معينة من الشفافية التي لم تسمح بها من قبل بشأن ترسانتها النووية.

وحاول الخبيران الاستراتيجيان سيمبالا وكورب في تحليلهما وضع معايير تشكيل نظام عالمي ذي 3 قوى عظمى نووية، من خلال وضع تصور مستقبلي لنشر القوات النووية الاستراتيجية الأميركية والروسية والصينية، مع نشر كل منها أسلحتها النووية عبر مجموعة متنوعة من منصات الإطلاق البرية والبحرية والجوية. ويظهر التباين الحتمي بين الدول الثلاث بسبب الاختلاف الشديد بين الإعدادات الجيوستراتيجية والأجندات السياسة للقوى الثلاث. كما أن خطط تحديث القوة النووية للدول الثلاث ما زالت رهن الإعداد. لكن من المؤكد أن الولايات المتحدة وروسيا ستواصلان خططهما لتحديث صواريخهما الباليستية العابرة للقارات والصواريخ الباليستية التي تطلق من الغواصات والقاذفات الثقيلة بأجيال أحدث من منصات الإطلاق في كل فئة، في حين يظل الغموض يحيط بخطط الصين للتحديث.

ورغم أن الولايات المتحدة تمتلك ترسانة نووية تتفوق بشدة على ترسانتي روسيا والصين، فإن هذا التفوق يتآكل بشدة عند جمع الترسانتين الروسية والصينية معاً. فالولايات المتحدة تمتلك حالياً 3708 رؤوس نووية استراتيجية، في حين تمتلك روسيا 2822 رأساً، والصين 440 رأساً. علاوة على ذلك، فالدول الثلاث تقوم بتحديث ترساناتها النووية، في حين يمكن أن يصل حجم ترسانة الأسلحة النووية الاستراتيجية الصينية إلى 1000 سلاح بحلول 2030.

ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً هو: إلى أي مدى ستفقد الولايات المتحدة تفوقها إذا واجهت هجوماً مشتركاً محتملاً من جانب روسيا والصين مقارنة بتفوقها في حال التعامل مع كل دولة منهما على حدة؟ ولا توجد إجابة فورية واضحة عن هذا السؤال، ولكنه يثير قضايا سياسية واستراتيجية مهمة.

على سبيل المثال، ما الذي يدفع الصين للانضمام إلى الضربة النووية الروسية الأولى ضد الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)؟ ولا بد أن نتخيل سيناريو متطرفاً، حيث تتحول الأزمات المتزامنة في أوروبا وآسيا إلى أزمات حادة، فتتحول الحرب الروسية - الأوكرانية إلى مواجهة بين روسيا وحلف «الناتو»، في الوقت الذي تتحرك فيه الصين للاستيلاء على تايوان، مع تصدي الولايات المتحدة لمثل هذه المحاولة.

وحتى في هذه الحالة المتطرفة، لا شك أن الصين تفضل تسوية الأمور مع تايوان بشروطها الخاصة وباستخدام القوات التقليدية. كما أنها لن تستفيد من الاشتراك في حرب بوتين النووية مع «الناتو». بل على العكس من ذلك، أشارت الصين حتى الآن بوضوح تام إلى روسيا بأن القيادة الصينية تعارض أي استخدام نووي أولاً في أوكرانيا أو ضد حلف شمال الأطلسي. والواقع أن العلاقات الاقتصادية الصينية مع الولايات المتحدة وأوروبا واسعة النطاق.

وليس لدى الصين أي خطة لتحويل الاقتصادات الغربية إلى أنقاض. فضلاً عن ذلك، فإن الرد النووي للولايات المتحدة و«الناتو» على الضربة الروسية الأولى يمكن أن يشكل مخاطر فورية على سلامة وأمن الصين.

وإذا كان مخططو الاستراتيجية الأميركية يستبعدون اشتراك روسيا والصين في توجيه ضربة نووية أولى إلى الولايات المتحدة، فإن حجم القوة المشتركة للدولتين قد يوفر قدراً من القوة التفاوضية في مواجهة حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة.

وربما تدعم الصين وروسيا صورة كل منهما للأخرى بوصفها دولة نووية آمنة في مواجهة الضغوط الأميركية أو حلفائها لصالح تايوان أو أوكرانيا. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فمن المرجح أن توفر «الفجوة» بين أعداد الأسلحة النووية غير الاستراتيجية أو التكتيكية التي تحتفظ بها روسيا والصين والموجودة في المسرح المباشر للعمليات العسكرية، مقارنة بتلك المتاحة للولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي، عنصر ردع ضد أي تصعيد تقليدي من جانب الولايات المتحدة ضد أي من الدولتين.

أخيراً، يضيف ظهور الصين قوة نووية عظمى تعقيداً إلى التحدي المتمثل في إدارة الاستقرار الاستراتيجي النووي. ومع ذلك، فإن هذا لا يمنع تطوير سياسات واستراتيجيات إبداعية لتحقيق استقرار الردع، والحد من الأسلحة النووية، ودعم نظام منع الانتشار، وتجنب الحرب النووية. ولا يمكن فهم الردع النووي للصين بمعزل عن تحديث قوتها التقليدية ورغبتها في التصدي للنظام الدولي القائم على القواعد التي تفضلها الولايات المتحدة وحلفاؤها في آسيا. في الوقت نفسه، فإن التحالف العسكري والأمني بين الصين وروسيا مؤقت، وليس وجودياً. فالتوافق بين الأهداف العالمية لكل من الصين وروسيا ليس كاملاً، لكن هذا التحالف يظل تهديداً خطيراً للهيمنة الأميركية والغربية على النظام العالمي.