أوروبا... تساؤلات حول مآلات الدعم لأوكرانيا

خلافات بشأن كيفية إنهاء الحرب... وتفعيل آلية السلام الأوروبية

الرئيس الأوكراني يتوسط رئيسي المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي (أ.ب)
الرئيس الأوكراني يتوسط رئيسي المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي (أ.ب)
TT
20

أوروبا... تساؤلات حول مآلات الدعم لأوكرانيا

الرئيس الأوكراني يتوسط رئيسي المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي (أ.ب)
الرئيس الأوكراني يتوسط رئيسي المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي (أ.ب)

بعد عام من بدء «العملية العسكرية الخاصة» التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) من العام الماضي، حان زمن تقييم الدور الذي لعبه الاتحاد الأوروبي، ومدى قدرته على التمسك بموقف موحد في دعمه لأوكرانيا، رغم الانعكاسات الكثيرة التي عانى منها المواطن الأوروبي بسبب تبعات الحرب. وتمثلت هذه التبعات في كافة بلدان الاتحاد الأوروبي بالارتفاع الصاروخي للأسعار «الطاقة، المواد الغذائية، السلع الصناعية...»، وانتكاسة القدرات الشرائية، والتضخم الذي ضرب أرقاماً قياسية لم تعرفها أوروبا من 30 إلى 40 عاماً.
وأفضت هذه التداعيات إلى تهميش شرائح واسعة من المجتمعات الأوروبية، واندلاع احتجاجات اجتماعية، واضطرار الحكومات إلى إقرار خطط عاجلة لدعم الفئات الأكثر تأثراً بتبعات الحرب. وقد نجحت دول الاتحاد الأوروبي، إلى حد ما، في احتواء النقمة الشعبية؛ إذ إن استطلاعات الرأي الأخيرة تبين أن أكثرية أوروبية ما زالت تؤيد توفير الدعم لأوكرانيا في حربها لمواجهة القوات الروسية. إلا أن هذا الدعم أخذ بالتراجع ولكن، حتى اليوم، ليس إلى درجة تثير قلق الحكومات.
بيد أن اللجوء إلى التعميم يخفي خصوصية كل بلد وتحولات الرأي العام داخله، كما يستر الشقوق الكامنة بين السياسات الحكومية الأوروبية التي يعبر عنها قادة الاتحاد الأوروبي كمجموعة وأبرز مسؤولي دوله من جهة، وحال الرأي العام وتطلعات المواطنين من جهة ثانية.
من هنا، تأتي أهمية الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة «إيفوب» الفرنسية في كافة بلدان الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى بريطانيا، لقياس حالة الرأي العام في مقاربة الملف الأوكراني. ويبين الاستطلاع تفاوتاً كبيراً؛ إذ بينما تحظى أوكرانيا بنظرة «إيجابية» للغاية في بلد مثل بريطانيا «82 في المائة»، و79 في المائة في بولندا، فإنها تهبط إلى 64 في المائة في فرنسا، وإلى 61 في المائة في ألمانيا. ويبين الاستفتاء بداية تعب الرأي العام من الدعم المتواصل لكييف، ويربطه بانعدام اليقين لجهة المدة الزمنية التي ستتواصل خلالها الحرب، ولكلفتها المادية، ولانعكاساتها على مستوى المعيشة في البلدان المعنية.
ثمة ظاهرة أخرى برزت مؤخراً، وهي التساؤلات عن مستقبل ملايين الأوكرانيين الذين فروا إلى دول الجوار، حتى إن هذه المسألة أخذت تطرح في بولندا التي فتحت حدودها ومؤسساتها وبيوتها كافة بوجههم. يضاف إلى ما سبق تراجع نسبة التأييد لتواصل مد كييف بالسلاح ووجود فوارق حقيقية بين الدول الأوروبية، حيث إنه يتأرجح حالياً ما بين 80 في المائة في بولندا، و70 في المائة في بريطانيا، ويهبط إلى 54 في المائة في ألمانيا، و50 في المائة في فرنسا، ويصبح سلبياً في إيطاليا «49 في المائة». وفي الدول الخمس الرئيسية يتخطى التراجع نسبة 10 في المائة، قياساً على ما كان عليه في أشهر الحرب الأولى، وهو يناقض، إلى حد بعيد، التصريحات الرسمية الداعية إلى مد أوكرانيا بالسلاح ما دامت أنها بحاجة إليه، وطيلة المدة التي تحتاجها. بالمقابل ورغم التبعات المترتبة على فرض عقوبات قاسية على روسيا وانعكاساتها على الاقتصادات الأوروبية كافة، فإن الرأي العام الأوروبي ما زال يؤيد بقوة فرضها.
رغم ما سبق، ورغم التمايزات التي يمكن رصدها بين بلدان الاتحاد الـ27، فإن الأوروبيين يعتبرون أنهم حافظوا بقوة على وحدتهم، وأنهم حتى اليوم نجحوا بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية والحلف الأطلسي ومجموعة الدعم الخمسينية لأوكرانيا التي شكلتها وتديرها واشنطن، في إفشال الخطط الروسية. وقالت مصادر دبلوماسية فرنسية رفيعة المستوى لـ«الشرق الأوسط» في معرض تقويمها للوضع الراهن: «لا أحد كان يتوقع أن ينجح الاتحاد الأوروبي في تحقيق ما أنجزه في الأشهر الـ12 المنقضية». فالأوروبيون قاموا بالكثير في موضوع الغاز والنفط «أوقف استيراد هاتين المادتين إلى حد بعيد عقوداً من الاعتماد الكبير على الغاز الروسي خصوصاً، ووضع حداً أعلى للأسعار»، وفرض عقوبات على هذا القطاع الحساس «وعلى قطاعات رئيسية غيره»، والاستمرار في ذلك وصولاً إلى الحزمة العاشرة من العقوبات، بل البحث في كيفية مصادرة الأصول الروسية الموجودة في البنوك الأوروبية؛ لإعادة إعمار أوكرانيا.
يضاف إلى ما سبق، أن الأوروبيين شغلوا لأول مرة في تاريخ الاتحاد ما يسمى «آلية السلام الأوروبية» التي مكنت من تمويل جزء رئيسي من الجهد العسكري الأوكراني. وتبين الأرقام المتوافرة أن الأوروبيين وفروا حتى اليوم لأوكرانيا، وفي كافة القطاعات المدنية والعسكرية والإنسانية ما مجموعه 67 مليار يورو، من بينها 22 مليار يورو مخصصة للدعم العسكري. أما التحول الأكبر الذي تشدد عليه المصادر الفرنسية فإنه يتناول تخلي الأوروبيين التدريجي عن كل «التحفظات» التي كانت لديهم لجهة تزويد أوكرانيا بأنواع محددة من السلاح مخافة إثارة موسكو، واعتبارها أن الأوروبيين أصبحوا «طرفاً» في الحرب. واليوم، تبدو طويلة لائحة الأسلحة التي حصلت عليها القوات الأوكرانية والتي منعت عنها في البداية، وآخرها الدبابات القتالية الثقيلة، بل إن طلب كييف الحصول على طائرات غربية قتالية لا يواجه رفضاً بالمطلق، وإن دولاً مثل بولندا وهولندا وحتى فرنسا لا ترى وجود مانع مبدئي.
ويكفي النظر إلى حالة ألمانيا وإلى المسار الذي قطعته من الرفض المطلق لتقديم أي سلاح إلى كييف في بداية الحرب، إلى قبول تزويدها بدبابات «ليوبارد 2» من ترسانتها الخاصة، وإعطاء الضوء الأخضر للدول التي تمتلك هذا النوع من الدبابات للإسراع في نقل بعضها إلى أوكرانيا؛ لتشكيل كتيبتين منها، قبل انطلاق الهجوم الروسي الكبير المنتظر بداية الربيع المقبل. وفيما تعاني الصناعات الدفاعية الأوروبية من نقص في الإنتاج للاستجابة لما تبتلعه الحرب، فإن الدول الأوروبية إرادياً وجماعياً تحث الخطى لفعل المزيد. وقد اقترحت المفوضية الأوروبية مؤخراً شراءً مشتركاً للذخائر من الصناعات الدفاعية على غرار ما حصل في شراء اللقاحات لمواجهة جائحة «كوفيد-19» ومتحوراتها. ثم إن الأوروبيين ومعهم بريطانيا والحلف الأطلسي يعملون منذ شهور على تدريب القوات الأوكرانية، وزيادة كفاءاتها القتالية، بحيث تسد النوعية الضعف العددي في مواجهاتهم الميدانية.
لا تنحصر الإنجازات الأوروبية بما سبق. ذلك أنهم يرون أن نجاحاتهم متعددة، وأولها تمكنهم من عزل روسيا إلى حد بعيد على المسرح الدولي، وحجتهم في ذلك أن 4 دول فقط صوتت لصالحهم في الجمعية العامة للأمم المتحدة «كوريا الشمالية وإيران وسوريا وبيلاروسيا» لدى إدانة غزوهم لأوكرانيا، ولاحقاً لضم 4 مناطق من أراضيها. فضلاً عن ذلك، يتعين النظر إلى الجهود الغربية الساعية إلى إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة المسؤولين عن الحرب الروسية على أوكرانيا، وعن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية... ويرى الأوروبيون أيضاً أنهم لعبوا دوراً في إفشال الخطط العسكرية الروسية استراتيجياً وتكتيكياً. بيد أن افتخارهم الأهم، وفق ما قالته المصادر الدبلوماسية الفرنسية، أن الأوروبيين أفشلوا خطة الرئيس بوتين في نسف وحدة الموقف الأوروبي الذي نجح حتى اليوم في التوصل إلى سياسات موحدة إزاء روسيا في كافة المجالات، رغم بعض الفروق الفردية كموقف المجر من مسألة العقوبات.
ويتوازى الفشل الروسي أوروبياً مع فشله أطلسياً؛ إذ يعتبر المراقبون أن الهجوم على أوكرانيا أعاد إبراز أمرين؛ الأول: أهمية الحلف الأطلسي كمظلة أمنية للغرب بوجه التوسع الروسي، والثاني: القيادة الأميركية المتجددة للحلف بعد أن ضعفت قبضة واشنطن عليه. لكن هذا لم يمنع من استشعار الأوروبيين الحاجة إلى دفاع أوروبي قوي، وزيادة الإنفاق العسكري ليصل إلى 2 في المائة من الناتج المحلي كعتبة أولى. وليس أدل على فائدة الحلف الغربي اليوم من أن دولاً محايدة تقليدياً، مثل السويد وفنلندا، تريد الانضمام إليه للتمتع بما يوفره من ضمانات أمنية ومن مظلة نووية.
تبقى مسألة كيفية وضع حد لهذه الحرب ووفق أي شروط وظروف. وجاءت تصريحات الرئيس ماكرون الأخيرة التي قال فيها: «أريد هزيمة روسيا في أوكرانيا، وأن تتمكن من الدفاع عن مواقعها لكنني مقتنع في نهاية المطاف أن الحرب ستنتهي على طاولة المفاوضات ولا أعتقد، كما يرى البعض، أنه يتعين إلحاق هزيمة تامة بروسيا أو مهاجمة أراضيها. هؤلاء يريدون سحق روسيا، وهذا لن يكون موقف فرنسا أبداً».
ورؤية ماكرون كما شرحها لدى عودته من المشاركة في مؤتمر ميونيخ للأمن أن «المطلوب اليوم أن تقوم أوكرانيا بهجوم يضعضع الجبهة الروسية، بحيث تدفع موسكو للعودة إلى طاولة المفاوضات». ومن جانبه، يرى المستشار الألماني أنه «لا يتعين أن تربح روسيا الحرب». وفي الحالتين يعد هذا الموقف بمثابة «الحد الأدنى» على المستوى الأوروبي، فيما مواقف أخرى «بولندا، دول بحر البلطيق...» أكثر جذرية وتريد إلحاق هزيمة مدوية بروسيا، بحيث لن تفكر بعد ذلك بمهاجمة جيرانها أو تهديدهم.
لكن الموقف الأوروبي الجماعي يقول بمواصلة دعم أوكرانيا لاستعادة أراضيها وسيادتها، ويعود إليه أن تقرر إذا رغبت بالتفاوض ومتى ووفق أي شروط. بيد أن الأوروبيين لا يملكون الورقة الحاسمة الموجودة في واشنطن، الداعم الأكبر، كما أنه ليس من المؤكد أن زيلينسكي جاهز للاستماع للنصائح الأوروبية.
بعد عام على الحرب... هل باتت روسيا أكثر أمناً؟
مغامرة بوتين في أوكرانيا... أمام الامتحان
مستقبل الحرب... واحتمالات توسعها وخروجها عن السيطرة
كيف أساءت روسيا تقدير موقف ألمانيا؟
الأزمة... والدور «المشلول» لمجلس الأمن
الكرملين أمام انتصار بعيد... وهزيمة مستحيلة
بوتين «معزول» عالمياً وأمام «طريق مسدود» ... وروسيا خسرت أوكرانيا «إلى الأبد»
زيلينسكي... الممثل الهزلي لعب أدواراً كوميدية بحضور بوتين
هل أعادت الحرب الحياة إلى «الناتو» أم أيقظته «مرحلياً»؟


مقالات ذات صلة

حين لا يخدم التكتيك الاستراتيجية المنشودة

تحليل إخباري قصف إسرائيلي قرب خيام نازحين فلسطينيين في خان يونس (أرشيفية - أ.ف.ب)

حين لا يخدم التكتيك الاستراتيجية المنشودة

كانت الاستراتيجية الروسية الكبرى إلغاء ما يُسمّى بدولة أوكرانيا. لكن التكتيك الأوكراني، بمساعدة أميركيّة مباشرة، أسقط معادلة النصر الروسية.

المحلل العسكري
أوروبا صورة التقطتها ونشرتها الخدمة الصحافية الرئاسية الأوكرانية في 20 أبريل 2025 تظهر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في مناسبة احتفالات عيد الفصح في كييف وسط الغزو الروسي لأوكرانيا (أ.ف.ب)

زيلينسكي: الاقتراح الأوكراني بوقف الهجمات على البنية التحتية ما زال مطروحاً

أكد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الثلاثاء، أن مقترح بلاده لوقف الهجمات على البنية التحتية المدنية ما زال مطروحاً.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف عند وصوله إلى قصر الإليزيه في باريس 17 أبريل 2025 (أ.ب)

مستشار بوتين: المبعوث الأميركي ويتكوف يزور موسكو هذا الأسبوع

أعلن مستشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوري أوشاكوف، اليوم (الثلاثاء)، أن المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف يخطط لزيارة موسكو هذا الأسبوع.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف (رويترز) play-circle

الكرملين: بوتين مستعد لمناقشة دعوة زيلينسكي لوقف الهجمات على أهداف مدنية

كشف الكرملين اليوم الثلاثاء أن روسيا مستعدة لدراسة اقتراح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لوقف الهجمات المتبادلة على البنية التحتية المدنية في كلا البلدين.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (د.ب.أ)

مسؤول أوكراني: محادثات وقف إطلاق النار في لندن تعقد الأربعاء

قال مسؤول أوكراني، الثلاثاء، إن الجولة الثانية من المحادثات بين أوكرانيا وشركائها الغربيين للتوصل إلى وقف لإطلاق النار مع روسيا «ستُعقَد الأربعاء» في لندن.

«الشرق الأوسط» (كييف )

حين لا يخدم التكتيك الاستراتيجية المنشودة

قصف إسرائيلي قرب خيام نازحين فلسطينيين في خان يونس (أرشيفية - أ.ف.ب)
قصف إسرائيلي قرب خيام نازحين فلسطينيين في خان يونس (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT
20

حين لا يخدم التكتيك الاستراتيجية المنشودة

قصف إسرائيلي قرب خيام نازحين فلسطينيين في خان يونس (أرشيفية - أ.ف.ب)
قصف إسرائيلي قرب خيام نازحين فلسطينيين في خان يونس (أرشيفية - أ.ف.ب)

يقول المفكّر الإنجليزي لورنس د. فريدمان -بمعنى ما- إن الاستراتيجيات العسكرية التقليدية، التي اعتدنا النظر إليها بوصفها خريطة طريق نحو النصر، لم تَعُد تؤدي دورها كما ينبغي. فالاستراتيجية، في جوهرها، هي الفكرة التي تربط بين الأهداف والوسائل المتاحة، وتُعدّ أعلى مستويات التخطيط العسكري. وما يربط الاستراتيجية بالتكتيك، أي التنفيذ المباشر على أرض المعركة، هو المستوى العملانيّ (Operational). لكن الأكيد حتى الآن، أن النتائج والتراكمات التكتيكية هي التي تؤدّي إلى النصر الاستراتيجيّ، شرط أن تكون الاستراتيجية ممكنة التنفيذ وواقعيّة. فهل يقوم كل النجاح على التكتيك؟

في مكان آخر، يقول بعض المفكّرين إن معادلة النصر بسيطة جداً، وهي ترتكز على: الحشد + المناورة= النصر. لكن الحشد والمناورة، هما لمن يملك القدرات العسكريّة في العدة والعتاد. فماذا عمّن يُدافع، ويعتمد الحرب اللاتماثليّة (Asymmetric)؟ وماذا عن اللاعبين من خارج إطار الدولة (Non State Actors)؟ فهل أصبح لزاماً على القوى الكبرى -وكما يقترح فريدمان، والقادرة على الحشد والمناورة، وبسبب عدم القدرة على الحسم السريع- أن تُبدّل معادلة النصر الخاصة بها؟

حروب ودروس

في حرب الخليج الأولى، وضع الرئيس بوش الأب، معادلة نصر ممكنة وشرعية، ألا وهي تحرير الكويت ودون إسقاط بغداد، فكان له ما أراد. بعدها، أعلن بوش قيام نظام عالميّ جديد، وبعكس والده، أراد بوش الابن تغيير النظام في العراق، تغيير المنطقة، وخوض حرب كونيّة على الإرهاب. فشلت معادلة النصر خاصته لأنها معقدّة، ويرتكز نجاحها على جمع كثير من المتناقضات مع بعضها. لكن ما أسقط استراتيجيته الكبرى، هو التكتيك الحربي الذي استعمل ضدّ القوات الأميركية في العراق. فبدلاً من السماح له بالحشد والمناورة، واستعمال القدرة الناريّة الهائلة التي يملكها الجيش الأميركيّ، اعتمدت الفصائل متعددة الانتماء على تكتيك حرب العصابات والاستنزاف للقوات الأميركيّة، وبدعم خارجيّ بالطبع، الأمر الذي عقَّد وأفشل معادلة النصر للرئيس الأميركي.

دخان قصف إسرائيلي فوق غزة (أرشيفية - رويترز)
دخان قصف إسرائيلي فوق غزة (أرشيفية - رويترز)

وضعت حركة «حماس» الاستراتيجيّة الكبرى لعملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. حضّرت الأرضيّة، والقوى، وكذلك عملية الخداع الاستراتيجيّ لفترات طويلة. نجحت في التنفيذ العملانيّ والتكتيكيّ، لكنها، لم تستطع ترجمة الإنجاز العسكريّ المؤقّت إلى بُعد سياسيّ يتعلّق بالقضيّة الفلسطينية ككل. هندست حركة «حماس» المسرح الحربي، بطريقة فرضت على الجيش الإسرائيلي نمط قتال يتعارض مع عقيدته العسكرية القائمة على الحركية والمناورة. أمنّت الحركة عمقاً جغرافيّاً استراتيجيّاً عموديّاً عبر شبكة الإنفاق. وردّت إسرائيل عبر تكتيك العزل، والتقطيع، والتدمير الشامل، أو ما يُسمّى بالردع العقابيّ - النكبويّ (Punitive).

وضعت إسرائيل أهدافاً سياسيّة صعبة التحقيق، وبكلام آخر، لم تكن معادلة النصر لرئيس وزراء إسرائيل قابلة للتحقيق، خصوصاً أنها افتقدت إلى البُعد السياسيّ، أو ما سمّاه المفكر الصيني صان تسو بال «الجسر الذهبي». وعليه، استمرّت الحرب لأكثر من عام ونصف العام، ودون تحقيق الأهداف الاستراتيجية الإسرائيليّة.

ويمكن القول إن الحرب وصلت إلى الامتداد الأقصى (Culmination)، وبدأ المردود السلبي يؤثّر على الداخل الإسرائيليّ وبكل الأبعاد. كما بدأنا نرى تغييرات تكتيكيّة حسب ما يُفرضه الميدان. ويعتمد الجيش الإسرائيليّ حالياً مقاربة عسكرية حذرة جداً، ترتكز أكثر ما ترتكز على القضم المتدرّج للمساحة في القطاع. ومن عناصر هذه المقاربة: التحكّم في البروتوكول الإنسانيّ، وطلب إخلاء السكان من بعض الأماكن، واستعمال القوى الجويّة والقوة النارية بشكل مكثّف، والتقدّم ببطء تجنبّاً للخسائر البشريّة. وأخيراً وليس آخراً، وبدلاً من اعتماد التكتيك العسكريّ القديم الذي قام على: تنظيف المنطقة، والخروج منها، والعودة إليها لتنفيذ عملية عسكريّة جديدة عند توفّر معلومات تكتيكيّة. يعتمد الجيش الإسرائيلي حالياً المقاربة التالية: تجميع الاستعلام التكتيكي، وطلب إخلاء السكان، والتقدّم برّاً، وتنظيف المنطقة والبقاء فيها بدل الخروج.

وبشكل أوضح، يسعى الجيش الإسرائيلي إلى حرمان حركة «حماس» من المساحة، عبر تجميع الغزيين في أماكن مفتوحة جغرافيّاً وليست سكنيّة - مبنيّة. على أن يعود بعدها للتعامل مع الأماكن السكنيّة المُطوّقة، التي من المفروض أن تشكّل مراكز الثقل العسكريّة لـ«حماس»، فهي حتماً نقاط الدخول والخروج للمقاتلين ومن وإلى الأنفاق.

رجال إطفاء يعملون على إخماد حريق جرّاء مسيرة روسية في أوديسا الثلاثاء (إ. ب.أ)
رجال إطفاء يعملون على إخماد حريق جرّاء مسيرة روسية في أوديسا الثلاثاء (إ. ب.أ)

في بداية الحرب الروسيّة على أوكرانيا، كانت الاستراتيجيّة الروسية الكبرى إلغاء ما يُسمّى بدولة أوكرانيا. لكن التكتيك الأوكراني، وبمساعدة أميركية مباشرة، وفي كثير من الأبعاد، خصوصاً الاستعلام التكتيكي حول حركيّة الجيش الروسيّ على كل الجبهات، والعمل على ضربه استباقيّاً، وذلك حسبما ورد في صحيفة «نيويورك تايمز»، أسقط معادلة النصر الروسيّة. وانتقلت الحرب من حرب المناورة إلى حرب استنزاف بين الفريقين. وبدأنا نلاحظ تكتيكات جديدة من كلا الفريقين، خصوصاً في كيفيّة استعمال المُسيّرات للتعويض بالقوة النارية وبالعدة.

في الختام، يقول الخبراء إن العقيدة العسكريّة لجيش ما «Military Doctrine»، أو ما تُعرَّف بأنها «أفضل طريقة لقتال العدو وهزيمته»، هي تلك البرمجيات الطريّة (Software)، التي تتضمّن مجموعة من التعليمات أو البيانات بهدف تنفيذ المهمّة. أما التكتيك، فهو مشابه تماماً للنظام المُشغّل للحاسوب (OS)، فهو صلة الوصل بين الحاسوب والإنسان المُستعمل. وعليه، يمكن اعتبار التكتيك حلقة الوصل بين تنفيذ العقيدة العسكرية والعنصر البشري، على النحو التالي: يُنفّذ الجيش العقيدة التي تدرّب عليها، لكن الميدان يفرض وقائع وتحديات جديدة تُنتج بدورها تكتيكات مستحدثة. أمام هذه المستجدات، يسعى القادة إلى إجراء تعديلات ملائمة على العقيدة العسكرية. فهل يمكن أن تتجلّى صورة النصر في مستوى التكتيك؟