عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

رهان المحافظين يخيف المستثمر البريطاني

الاسم «أسترازينيكا»، مؤسسة العقاقير وأبحاث الفارماكولوجيا، ارتبط بالنجاح في بريطانيا، في خريف 2020، ونذكر تكرار رئيس الحكومة وقتها، بوريس جونسون، التفاخر القومي بالإنجاز الطبي والعلمي للبلاد. المؤسسة العلمية، ومقرها كمبريدج، بالتعاون مع فريق سارة غيلبرت، بروفسير دراسات التطعيم الطبي في جامعة أكسفورد، دخلا التاريخ بنجاح تطعيم - مصل (وهو ليس لقاحاً حياً) لبرمجة جهاز المناعة الإنساني لإنتاج مضادات أجسام تقاوم فيروس كورونا المستجد، مساهمين في إنقاذ حياة الملايين أثناء وباء «كوفيد» العالمي. وحتى نهاية الشهر الماضي، وفرت «أسترازينيكا» مليارين و500 مليون جرعة عالمياً، ولذلك جاء قرار الشركة ببناء مركزها الجديد لأبحاثها وإنتاج الأدوية والأمصال باستثمار 400 مليار دولار في جمهورية آيرلندا، بدلاً من مركز كانت تعده في شمال غربي إنجلترا، لطمةً جديدةً لاقتصاد البلاد الذي يواجه أزمات متعددة.
«أسترازينيكا» تأسست عام 1991 باندماج الشركة البريطانية «زينيكا» لصناعات الأدوية والأبحاث، مع الشركة السويدية «أسترا إيه بي»، وتمركزت في كمبريدج، في مجمع الكيمياء البيولوجية قرب الجامعة العريقة، وقيمة أسهمها 203 مليارات دولار، وهي ثاني أكبر شركة في بورصة الأسهم في لندن (بعد «تويوتا للسيارات» وقيمتها 256 مليار دولار)، هي قصة نجاح للأبحاث والعلوم البريطانية، فقد ارتفع عدد العاملين فيها من 60 ألفاً عند التأسيس، إلى أكثر من 70 ألفاً قبل وباء «كوفيد» العالمي، إلى أكثر من 83 ألفاً حول العالم في 2022، منهم ثمانية آلاف في المملكة المتحدة.
أبحاث الشركة ساهمت في تطوير أمصال التطعيم، والأمصال الحية (البعض يسميها لقاحات) والأدوية في مجالات الأمراض الكبيرة الخطيرة والمستعصية، كالسرطان، وأمراض القلب والشرايين، والجهاز الهضمي، والأمراض سريعة الانتقال بالعدوى، خصوصاً للجهاز التنفسي.
وكان وزير المالية جيرمي هنت، يعول على استثمارات كهذه لإنقاذ الاقتصاد، خصوصاً أن خبر قرار «أسترازينيكا»، أول من أمس، تصادف مع الخبر الإحصائي بـ«نجاة» بريطانيا من مصير «الانكماش الاقتصادي» أو «الكساد» رسمياً (برغم تناقص الناتج القومي بنصف نقطة في المائة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي)، لأنه لم يحدث تناقص في ربعين متتاليين (تقسم السنة المالية والاقتصادية إلى أربعة أقسام، كل من ثلاثة أشهر). وكانت الحكومة البريطانية حاولت إقناع «أسترازينيكا» بإنشاء المركز الجديد في البلاد بمساهمتها بـ15 في المائة (61 مليون دولار) من التكاليف، لكن هذا لم يكن يكفي اقتصادياً. المراقبون وكبار المحافظين والوزراء السابقين كالسير إيان دنكان سميث والسير جون ريدوود يلقون باللوم على وزير المالية هنت، ورئيس الوزراء ريشي سوناك.
فسياستهما الضرائبية والمالية تأخذ اتجاهاً اشتراكياً أكثر منها تحرراً اقتصادياً ورأسمالياً. لكن النصيحة الأهم لوزير المالية هنت، جاءت على لسان السير باسكال سوريوت، رئيس مجموعة «أسترازينكا»، لأنه، مثل زعماء المحافظين، أوضح أن ضرائب المؤسسات التجارية والصناعية في آيرلندا الجنوبية على الأرباح هي 15 في المائة فقط، بينما سترتفع في بريطانيا من 19 في المائة حالياً إلى 25 في المائة، مع تعديلات أخرى تنهي الإعفاءات الضرائبية (كحوافز للمستثمر) في بداية أبريل (نيسان) (بداية السنة المالية) في ميزانية هنت الجديدة.
السير باسكال قال لـ«بي بي سي»، صباح الجمعة، إن صناعة الأدوية والأبحاث الطبية في المملكة يمكن أن تساهم بأكثر من 105 مليارات دولار سنوياً (كانت 50 مليار دولار قبل وباء «كوفيد») بجانب مساهمتها في تخفيف العبء على خدمة الصحة القومية، إذا أصلحت الحكومة من سياستها الضرائبية والقيود التي تعرقل الاستثمار.
سوناك عندما كان وزيراً للمالية اتخذ سياسات اشتراكية، خصوصاً أثناء إغلاق وباء «كوفيد»، ما عرف بـ«دعم فيرلوه» لدعم مرتبات العاملين الذين أغلقت الشركات أماكن عملها، وهو ما كلف الخزانة ما قيمته 92 مليار دولار، بجانب 57 مليار دولار ضمانات قروض للأعمال الصغيرة وضياع ستة مليارات لأعمال نصب في مشروع الدعم نفسه. ورغم أن البعض يعزو قراره بالدعم إلى «الشعور بالذنب»، لأنه مليونير بالغ الثراء، فإن الانسياق وراء دعوات شعبوية في تعديل النظام الضرائبي داخل حزب المحافظين يخيف المستثمر، وكان من أسباب استقالة ساجد جويد، الذي كان سوناك قد خلفه في تسلم وزارة المالية، لخلافه مع مستشاري جونسون؛ فجاويد من المدرسة الثاتشرية واقتصاد السوق الحر، وتخفيض الضرائب لتروج الاقتصاد وجذب الاستثمارات. الاتجاه الجديد المناقض جوهرياً للسياسة الاقتصادية للمحافظين، ورثته الحكومة الحالية عن ديفيد كاميرون ووزير ماليته جورج أوزبورن، وتسببت اليوم في زيادة أزمة الإسكان إلى مستويات غير مسبوقة. وزير المالية الحالي هنت لم يصلح سياسة أوزبورن الضرائبية (وبدوره استجاب لنداءات شعبية شيطنت صورة أصحاب العقارات) التي أدت إلى إفلاس آلاف المستثمرين (خصوصاً مستثمري معاشاتهم) في القطاع بعد أن ألغت قاعدة خصم مصاريف إصلاح وتجديد المساكن وفوائد القروض من عائد الإيجار، وأدى انسحاب المستثمرين إلى نقص هائل في عدد المساكن بإيجار معقول.
تقدم حزب العمال المعارض بـ29 في المائة على الحكومة في آخر استطلاعات الرأي، وتناقص أصوات المحافظين في آخر انتخابات فرعية، يقلقان نظام سوناك - هنت على صورة المحافظين في الرأي العام، فيتبنيان سياسة اشتراكية عمالية، ويستجيبان لأجندة بعيدة عن إصلاحات واستثمارات تحتاجها المصلحة القومية، مفضلين إعطاء الانطباع المظهري «بإعادة توزيع الثروة» أو فرض ضرائب البيئة والطاقة الخضراء على المستهلك وسائقي السيارات، وغيرها من سياسة تسبب خسائر اقتصادية. سوناك ووزير ماليته يخضعان للتيارات اليسارية في وسائل توجيه الرأي العام (وكان تراجع المحافظين وسقوط جونسون وفريقه بسبب كشف الصحافة لسلوك بدا غير منضبط ولا أخلاقياً، وليس لأخطاء اقتصادية أو سياسية، بل كان أداء الاقتصاد هو الأفضل بين بلدان العالم عقب إغلاق «كوفيد»).
رهان حكومة سوناك غير مضمون النتائج، فصناعة الرأي العام، وتيارات ما يمكن تسميته «الدولة العميقة» أو «المؤسسة»، تتحالف مع مصالح مالية وتجارية مرتبطة بالاتحاد الأوروبي، ومعظم زعامات الحركات النقابية تكسب اليوم قصب السبق في حملة لإسقاط المحافظين. وحتى لو نجح المحافظون في النجاة بالانتخابات المقبلة (22 شهراً من اليوم)، فالثمن الاقتصادي لسياستهم الضرائبية والمالية سيكون فادحاً.