علي المزيد
كاتب وصحفي سعودي في المجال الاقتصادي لأكثر من 35 عاما تنوعت خبراته في الصحافة الاقتصادية وأسواق المال. ساهم في تأسيس وإدارة صحف محلية واسعة الانتشار والمشاركة في تقديم برامج اقتصادية في الإذاعة السعودية، ومدير التحرير السابق لصحيفة الشرق الأوسط في السعودية وهو خريج جامعة الملك سعود.
TT

مقتضيات الحكمة

كتبتُ أكثر من مرة في هذه الصحيفة، وفي مناسبات عربية مختلفة، عن ضرورة التعاون الاقتصادي بين الدول العربية، وذكرت أن من أهم شروط هذا التعاون إبعاد السياسة والحوادث الفردية عن مقومات التعاون الاقتصادي بين الدول العربية، ومع اعترافي بصعوبة إبعاد العامل السياسي عن الاقتصادي، طالبت في ذلك الحين بأن يكون التدخل السياسي هو الأخير إذا استعصى الحل، وكل ذلك يأتي لإيماني بأن الاختلاف السياسي لا يمكن أن يستمر إلى الأبد.
ولعلّ أوضح مثال على ذلك مقاطعة الدول العربية للقيادة المصرية، بعد توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» مع إسرائيل، ورغم أن القرار كان جماعياً، وتحت مظلة «الجامعة العربية»، التي نُقِلت لتونس بدلاً من القاهرة، فإن الدول العربية أعادت العلاقات مع القاهرة بعد اغتيال الرئيس السادات.
وإذا كانت إعادة العلاقات السياسية أمراً محتملاً ومتوقعاً، فإن عودة التعاون الاقتصادي بعد القطيعة السياسية أمر صعب، لأن رأس المال جبان بطبيعته؛ إذ إن المستثمر المتضرر ينقل تجربته لرجال الأعمال الآخرين الذين يحجمون عن الاستثمار في بلد متغير القوانين وفق الهوى السياسي، ويعزفون عن الاستثمار في هذا البلد رغبةً منهم في الحفاظ على رؤوس أموالهم التي يهمها الربح، وهذا ينطبق أيضاً على استثمار الدول ذات رؤوس الأموال الضخمة التي تدخل في المشاريع الاستراتيجية التي تحتاج لرؤوس أموال ضخمة يعجز عنها الأفراد، وتعرفون فائدة مثل هذه الاستثمارات في البلد موطن الاستثمار.
وأذكر في هذا السياق أنه حدثت مشكلة لطالب مصري في إحدى المدن السعودية، وعرض موضوعه على القضاء السعودي ولم يدن المتهم. هذا الأمر لم يعجب الصحافة المصرية التي شنت حملة شعواء على السعودية في ذلك الحين. في المقابل، التزمت الصحافة السعودية الحكمة، ولكن في الوقت ذاته قامت بعض الصحف السعودية بإعادة نشر ما تنشره الصحف المصرية تجاه السعودية والسعوديين.
هذا الأمر خلق موضوعاً للصحافة الاقتصادية السعودية؛ إذ بدأت تنشر تقارير موثَّقة عن إلغاء العوائل السعودية لحجوزاتهم لمصر، وهذا يتبعه إلغاء حجوزات الفنادق، وتعرفون بقية القصة؛ إذ يتعطل الاقتصاد السياحي في بلد اعتمد السياحة مصدراً من مصادر الدخل. المهم أن نسبة السعوديين المتوجهين لمصر تقلصت، خشية من سوء المعاملة.
ولكن البعض سافر مضطراً، خصوصاً أولئك الذين تربطهم علاقة النسب بمصر. بعد انتهاء فترة الصيف، التقيتُ أحد أولئك العائدين من مصر، وبفضولي الصحافي سألته عن وجود السعوديين في مصر، فذكر لي أنه متدنٍّ، وهناك سخط كبير من الشرائح المستفيدة من السياحة في مصر، مثل سائقي «التكاسي» وأصحاب المحلات وغيرهم، على الصحافة المصرية التي قطعت أرزاقهم، ومن المؤكد أن مثل هذا السخط وصل لمتخذ القرار، ويتضح ذلك من هدوء الحملة المصرية وتغيُّر لغة الخطاب، عبر جعل المشكلة فردية لا قومية، مما جعل السياحة تعود لطبيعتها المعتادة بين السعوديين ومصر.
ما أشبه الليلة بالبارحة! فالخروج عن الأعراف المرعية في الصحافة أياً كانت دوافعه أو من يوجّهه يؤثر تأثيراً سيئاً على الاقتصاد في بلدان بحاجة للتعاون، وإذا كانت عودة السياحة بين بلدين أمراً سهلاً، فإن عودة رؤوس الأموال أمر في غاية الصعوبة؛ فهل نتعلم من تجاربنا، ونجعل الخيار السياسي هو الأخير في حالة الاختلاف، أم أن شذاذ الصحافة لديهم رأي آخر يكلف البلد ما لا يطيق. ودمتم.