ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

ساعة الحقيقة

قرأت مؤخراً في صحيفة «ميامي هيرالد» مقالة بقلم أندريس أوبنهايمر، تصف بدقة ما يجري حالياً في البيرو، وتكشف المؤامرة التي يخطط لها الرؤساء المنتخبون للمكسيك والأرجنتين وبوليفيا وهندوراس وتشيلي وكولومبيا، لقيام انقلاب ينهي النظام الديمقراطي في هذا البلد. وهي مؤامرة تشارك فيها كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا، لكن هذه ليست دولاً «ديمقراطية»، خصوصاً كوبا التي تمنع إجراء انتخابات حرة في الجزيرة منذ 60 عاماً.
ما هي حقيقة الوضع في البيرو؟ إنها بسيطة جداً: ألقى الرئيس الذي انتخبه المواطنون، بيدرو كاستيو، «خطاباً» في 7 ديسمبر (كانون الأول) الفائت عبر شبكة الإذاعة والتلفزيون، في محاولة منه للقيام بانقلاب منسوخ عن ذلك الذي قام به ألبرتو فوجيموري منذ 30 عاماً. وفي ذلك الخطاب الذي تابعه ملايين المواطنين، أعلن رئيس الدولة يومها أنه قرر طرد جميع أعضاء مجلس النواب، وإجراء انتخابات جديدة لاستبدال البرلمان بجمعية تأسيسية، وذلك خلافاً لما تنص عليه القوانين المرعية وأحكام الدستور، كما أعلن «إعادة تنظيم» النيابة العامة والسلطة القضائية. لكن البرلمان سارع لعقد جلسة طارئة، وقرر عزل الرئيس الذي اقتاده حرسه الخاص وسلمه على الفور إلى الشرطة، عوضاً عن مواكبته إلى سفارة المكسيك، حيث كان الرئيس مانويل لوبيز أوبرادور قد وعده بمنحه اللجوء السياسي. ومنذ ذلك التاريخ يوجد بيدرو كاستيو في السجن رهن المحاكمة، بأمر من السلطة القضائية التي تتهمه بمحاولة القيام بانقلاب على الشرعية كانت القوات المسلحة قد رفضت تأييده، وقررت الامتثال لشرعية القوانين وأحكام الدستور. وقرر أعضاء البرلمان اختيار نائبته دينا بولوارتي، التي تنتمي إلى حزب الرئيس كاستيو، الذي سبق أن أعلن مراراً أنه «ماركسي لينيني». وطرحت بولوارتي إجراء انتخابات جديدة في غضون عام، وافق عليها البرلمان بموجب أحكام الدستور، بحيث سينتخب المواطنون رئيساً جديداً للبلاد في فترة لا تتجاوز اثني عشر شهراً كما تنص القوانين.
هنا بدأ «الرؤساء المنتخبون» في الدول المجاورة، أي المكسيك والأرجنتين وكولومبيا وتشيلي وبوليفيا وهندوراس، بالتكشير عن أنيابهم، وراحوا يكررون أن الرئيس كاستيو لم يحاول القيام بانقلاب، وأنه معتقل بسبب الأحزاب «اليمينية» التي كانت وراء تلك «المؤامرة». لكن من أين جاءوا بهذه النظرية العبثية والخاطئة؟ لا أحد يعرف من أين جاءت هذه التهمة التي يقال إنها من بنات أفكار الرئيس المكسيكي لوبيز أوبرادور، الذي استضاف كاستيو وعائلته، ويصر على تكرار هذا الافتراء. ومن أسف أن ثمة دولاً تبنت هذه النظرية المختلقة التي تزعم أن الرئيس كاستيو هو ضحية مؤامرة يمينية في البيرو.
وقد راجت هذه النظرية بين بعض الجماعات اليسارية المتطرفة في البيرو، فقامت بمهاجمة المدن والمطارات، وأحرقت أحد أفراد الشرطة حياً، ما أدى إلى مواجهات مع القوى الأمنية أسفرت عن وقوع ما يزيد عن 60 قتيلاً. وقد أكدت الرئيسة بولوارتي، أن السلطة القضائية ستنظر في جميع هذه الحالات لمحاسبة المسؤولين، فيما كان الرأي العام يطالب بأن يتولى القضاء إجراء التحقيقات ومتابعتها على وجه السرعة. ويبدو أن الرئيسة التي أدهشتها تصريحات رفاقها السابقين، قد تنصلت من انتماءاتها العقائدية.
من السخف القول إن اليمين هو الذي حاك هذه المؤامرة لإسقاط كاستيو. كل المواطنين سمعوا وشاهدوا ذلك الخطاب الذي أعطى فيه كاستيو نفسه صلاحيات استثنائية، وقرر إرسال أعضاء البرلمان والنيابة العامة والقضاة إلى منازلهم. لكن الرهان الوحيد الذي فشل فيه هو أن القوات المسلحة رفضت تأييده، كما رفض حرسه الخاص مرافقته إلى سفارة المكسيك، وقرروا تسليمه إلى الشرطة. هذه هي النظرية التي يكشفها أندريس أوبنهايمر في ميامي هيراليد بعد تحقيق دقيق، والتي يؤيدها ملايين المواطنين من غير اعتراض. بعد عام ستجرى انتخابات يختار فيها المواطنون رئيساً جديداً لهم وفقاً لأحكام القوانين والدستور، ويؤيدها الجيش ربما لأول مرة في تاريخنا.
من أين جاءت هذه الهلوسة السخيفة حول «اختطاف» بيدرو كاستيو على يد اليمين؟ لا أحد يعرف ما الذي دفع الرئيس المكسيكي لوبيز أوبرادور، وقد تملكه الغضب الشديد، إلى اختلاق هذه الكذبة التي رفضتها حكومة البيرو وشعبها بشدة. أجدر بالسيد لوبيز أوبرادور أن يهتم بشؤون المكسيك ومشاكلها، حيث الاغتيالات تتكرر كل يوم.
ومن دواعي الأسف أيضاً أن الرئيس التشيلي الشاب غابريل بوريتش، قد انضم إلى هذه المهزلة، وأيد الاتهامات السخيفة التي أطلقها لوبيز أوبرادور، بأن سقوط بيدرو كاستيو كان نتيجة عملية قامت بها القوى اليمينية في البيرو. فهو كان قد لازم الحذر واحترام الشرعية منذ بداية الأزمة. أما الكولومبي غوستافو بيترو، فله أن يقول ما شاء وطاب له من أكاذيب. لكن ما الذي دفع بوريتش إلى تغيير موقفه؟ هذا أمر مؤسف لن ينساه له أهل البيرو.
والحق يقال إن كثيرين من أبناء البيرو لن يتأسفوا على سقوط الرئيس بيدرو كاستيو. فهو منذ انتخابه، كانت الأخطاء الفادحة التي ارتكبها بسبب من جهله أبسط الأمور عن البيرو قد أثارت السخط والغضب في العديد من القطاعات. ومن بين هذه الأخطاء عزمه على إقفال المناجم حفاظاً على البيئة الوطنية، جاهلاً أن استغلال المناجم بفاعلية هو السبيل الوحيد لكي تصبح البيرو يوماً في عداد البلدان الغنية. هذا يعطي فكرة عن المواصفات الفكرية التي تتحلى بها هذه الشخصية التي قرر الناخبون يوماً رفعه إلى سدة الرئاسة، قبل أن تنخفض شعبيته بنسبة 70 في المائة ويبادر هو للقيام بمحاولة الانقلاب التي وضعت حداً لمغامرة وصوله إلى رأس السلطة. لذلك أعتقد راسخاً أن «الانتخابات الحرة» وحدها لا تكفي في بلدان العالم الثالث، بل إن الناخبين عليهم أن يحسنوا الاختيار عند الإدلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع، ويؤيدون الديمقراطية والرفاه والتقدم، لأنهم إذا اختاروا الطغاة الذين يركضون وراء مصالحهم الخاصة، ويتنكرون لوعود التنمية ورفع مستوى المعيشة عندما يصلون إلى الحكم، تدخل البلاد في دوامة الإهمال والفقر والتخلف وما ينشأ عنها من اضطرابات اجتماعية. عسى أن يحسن الناخبون القرار في الانتخابات المقبلة.
لكن المشكلة ليست مقصورة على البيرو، بل هي قائمة في أميركا اللاتينية والعالم الثالث بشكل عام، خصوصاً أن البلدان في هذا العصر بالذات أصبحت قادرة على الاختيار بين الطريق المؤدي إلى الفقر، الذي يؤدي إلى التقدم والرفاه. لذلك من الضروري أن تتخلى بلدان العالم الثالث عن الأوهام الاشتراكية وتتساءل: أين انتصرت الأنظمة الاشتراكية؟ في أميركا اللاتينية شاهدنا تجربة فنزويلا المأساوية. وحالة كوبا، أليست مثاراً للحزن والشفقة؟ منذ ستين عاماً كنت من أشد المتحمسين للثورة الكوبية في بداياتها، قبل أن تدخل مرحلة الانحطاط التي دفعت بملايين الكوبيين إلى البحث في أرجاء الدنيا عن رزقهم ومستقبلهم. أليس ذلك محزناً؟ حبذا لو أن الأميركيين اللاتينيين يتنبهون لذلك عندما يذهبون في المرة المقبلة إلى صناديق الاقتراع.