د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

ضرر الهجرة

خلال السنوات الماضية، ومع الموجة الشعوبية التي اجتاحت العالم، أصبح موضوع الهجرة أو «المهاجرين» أحد أكثر الموضوعات نقاشاً، وأصبحت الحكومات تختار بناء على مواقفها من المهاجرين، فعلى سبيل المثال، يعد موقف الرئيس السابق (ترمب) تجاه المهاجرين أحد أكثر المواقف التي دعمت ترشيحه للرئاسة. وليست الولايات المتحدة فحسب، فبريطانيا اتخذت أحد أكثر القرارات جرأة خلال الخمسين عاماً الماضية بخروجها من الاتحاد الأوروبي، وكان السبب الرئيسي للتصويت بالخروج هو موضوع «المهاجرين».
وجهة النظر الشعوبية تجاه الهجرة شائعة هي أن المهاجرين يأثرون سلباً على المواطنين بعدة أشكال، فهم ينافسونهم في الوظائف، إما بالحصول على الوظائف، أو بتقليل متوسط الأجور بسبب قبولهم رواتب متدنية مقارنة بالمواطنين. كذلك فمن يتبنون وجهة النظر الشعوبية تجاه المهاجرين يرون أنهم يضيّقون عليهم في الخدمات العامة، كالمدارس والمستشفيات وغيرها، وهي وجهات نظر قد تقبل الصحة، وهي كذلك وجهة نظر قد تميل إلى الهجومية، مما يجعل معارضتها علناً أمراً صعباً للغاية، ولذلك قلّما يخرج من يتحدث عن منافع الهجرة (من الناحية الاقتصادية)، وكيف استفادت الدول، وما زالت تستفيد اقتصادياً من المهاجرين.
هناك ثلاثة أمثلة عن هذه المنافع، الأول لدولة تعد أم المهاجرين في العالم، وهي الولايات المتحدة الأميركية، حيث يعيش نحو 50 مليون مهاجر، أكثر من مليونين منهم هاجروا إلى الولايات المتحدة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وهو يعني أن تدفق المهاجرين لم يقف حتى بعد الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الأميركية السابقة. أميركا بُنيت وما زالت تبنى بأيدي المهاجرين، ويُقدر أن ثلثي النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة بين عامي 2011 و2019 جاء من المهاجرين. كما أن الإحصائيات تشير إلى أن 30 في المائة من الأعمال التجارية المؤسسة في الولايات المتحدة كانت من المهاجرين المولودين خارج أميركا، برغم أنهم لا يشكلون إلا 15 في المائة من السكان. هذه المؤسسات التجارية ليست صغيرة بأي حال، فهناك دراسة أخرى أشارت إلى أن 40 في المائة من شركات Fortune 500 أُسست من مهاجرين. وبالطبع هناك ريادة الأعمال، حيث توجد 50 شركة يونيكورن (وهي الشركات الناشئة التي تفوق قيمتها مليار دولار) مؤسسة من مهاجرين، وبررت الدراسات هذه الأرقام بأن ريادة الأعمال تحتاج إلى من الميّالين للمخاطرة، وهو أمر شائع في المهاجرين الذين غادروا بلدانهم.
المثال الثاني لكندا، وهي دولة تتبع النموذج الأميركي في النمو الاقتصادي، حيث أعلنت الحكومة قبل عدة أشهر أن الدولة فيها أكثر من مليون وظيفة شاغرة، وأنها بحاجة ماسة إلى المهاجرين. ورفعت الحكومة الكندية أعداد المهاجرين سنوياً، فاستهدفت 500 ألف مهاجر سنوياً بحلول 2025 مقارنة بـ250 ألف مهاجر سنوياً في الوقت الحالي. ونظام الهجرة في كندا مصمم بحيث يستهدف المهاجرين من أصحاب المهارات بنسبة لا تقل عن 60 في المائة. وبالنسبة لكندا فالهجرة هي الوسيلة الأهم للنمو الاقتصادي. وقد أثبتت دراسة أن زيادة المهاجرين بنسبة 1 في المائة من عدد السكان يتسبب في زيادة نسبتها 2 في المائة في الناتج القومي. وفي كندا لا تختلف غالبية الأحزاب حول حاجة البلد إلى المهاجرين، حتى مع كونهم يشكلون 23 في المائة من سكان البلاد، والمحافظة الوحيدة التي تعارض هذه الأعداد هي كوبيك التي تحاول الحفاظ على هويتها الفرنسية.
أما المثال الثالث فهو بريطانيا، وهو مثال يوضح سلبية الاستغناء عن المهاجرين للدوافع الشعوبية، ومع أن غالبية دول العالم تعاني الآن من التضخم بسبب الجائحة وارتفاع أسعار الطاقة، فإن بريطانيا لديها سبب إضافي وهو نقص اليد العاملة، فمنذ خروجها من الاتحاد الأوروبي شهدت نقصاً حاداً في العاملين، لدرجة أن الحكومة مددت تأشيرات العاملين في بعض المهن. وبريطانيا في الوقت الحالي تعد ثاني أسوأ اقتصاد أداء في مجموعة العشرين (بعد روسيا المطبق عليها عقوبات اقتصادية)، وأحد أسباب هذا السوء هو شح اليد العاملة.
إن اليد العاملة هي أحد أهم أسباب النمو الاقتصادي، والمهاجرين يشكلون أهمية مثبتة علمياً واقتصادياً وواقعياً في النمو الاقتصادي للكثير من دول العالم، والمعارضة المطلقة للهجرة لأسباب سياسية وانتخابية قد تدغدغ مشاعر الشعوب بشكل مؤقت. ولكنه سيصطدم بالواقع بعد سنوات سواء بانخفاض النمو أو بمغادرة الشركات لدول تتوفر فيها اليد العاملة، لا سيما أن العديد من دول العالم الآن تعاني من ارتفاع معدل الأعمار لا سيما الدول الغربية. والسؤال الذي يطرح على الشعوبيين، إذا كانت اليد العاملة والعقول المفكرة من أهم ثروات الشعوب، فلماذا يعد استقطاب اليد العاملة الماهرة، والكفاءات العلمية المفيدة أمراً سلبياً للدول؟