علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

جلال كشك ونزاعه مع حزبه الشيوعي

احتفَى اليساريون والشيوعيون بكتاب خالد محمد خالد (من هنا نبدأ) احتفاء كبيراً حين صدوره – أول طبعة من الكتاب كانت في شهر مارس (آذار) عام 1950 - لكن الرفيق خالد، أو الدكتور فؤاد مرسي سكرتير الحزب الشيوعي المصري (الراية) كان له رأي مخالف، فكتب ردّاً عليه باسمه الحركي، الرفيق خالد.
رأيه المعادي للكتاب والذي صدر عن غلو ماركسي، لم يقرّه بعض أبناء الحزب، وإن وافقه عليه قادته من الموالين لزعامته؛ كالدكتور إسماعيل صبري عبد الله وسعد زهران وداود عزيز ومصطفى طيبة والدكتور مصطفى صفوان. ويظهر أن الكتاب والرد على هذا الكتاب أحدثا بلبلة وانقساماً في هذا الحزب. وهذا ما نلمسه من القصة الناقصة التي رواها عبد القادر الشهاوي في مذكراته: (الحلم والسجن والحصار: رحلة مناضل مصري).
يقول الشهاوي: «ولأنني وأحمد الزقم مارسنا العمل مع الإخوان (يقصد الإخوان المسلمين)، فقد كنا نعرف عمق الضربة التي وجهها إليهم الشيخ خالد. لقد كانت ضربة قاصمة لا يستهان بها. ضربة فكرية دينية في أعقاب ضربات جماهيرية وسياسية. وفي أعقاب انقسامات قاصمة، وفي أعقاب انكشاف انحيازهم للنظام. ولكن جوهر رد الرفيق خالد كان يركز على أنه يفكر بعقل البرجوازية الصغيرة. حسناً؛ نحن بحاجة للتعامل مع هذا الفكر، وخاصة بين الفلاحين الذين ذهب إليهم الإخوان لينشئوا في كل قرية شعبة. نحن لا نملك ولا نستطيع، ولا نريد إلغاء فكر البرجوازية الصغيرة في مرحلة (ثورتنا المقبلة) ولكننا نبحث عن الطريق لتعامل يؤدي إلى تحالف. وكنت مع أحمد الزقم قد ذهبنا إلى خالد في الاتحاد النسائي بشارع القصر العيني. وكان سيلقي هناك محاضرة عن حقوق المرأة. وقابلناه وتناقشنا في كتابه، وطرحنا ضرورة إنشاء (حزب إسلامي ديمقراطي) يواجه انحرافات الإخوان، واستخدام الدين لحساب الرجعية. ومن خلال هذه المواجهة، يتعايش مع كل القوى الديمقراطية، ويدعمها. وحين اطلع خالد على الرد عليه، قال لنا: باسم من تتحدثون؟».
يقصد بجملة «وحين اطلع خالد على الرد عليه»، أي بعد أن سمع خالد محمد خالد بمقترحهما الذي طرحاه عليه، وهو ضرورة (إنشاء حزب إسلامي ديمقراطي). أما (ثورتنا المقبلة)، فكان يقصد به التقرير السياسي الذي كتبه الرفيق خالد، وكان العماد أو الدستور الذي يقوم عليه الحزب الشيوعي المصري (الراية).
محمد جلال كشك الذي أصدر كتابه الأول عام 1950 (مصريون... لا طوائف)، باسمه الأول المركب «محمد جلال» أهدى كتابه هذا «إلى رجل الدين الحر... خالد محمد خالد»، وحينما أصدر هذا الكتاب بهذا الإهداء، كان عضواً في الحزب الشيوعي المصري (الراية).
كتابه هذا له أهمية تاريخية من جانبين:
الأول: أنه أول كتاب في المسألة الطائفية في مصر من منظور ماركسي.
الثاني: أن الكتاب في فصلين منه، وهما الفصل الخامس والفصل السادس، تناول جماعة الإخوان المسلمين بالنقد. وكان عنوانهما: (الجمعيات الدينية الهدامة)، و(عودة الإخوان).
هذا النقد في ذينك الفصلين، يعتبر ثاني نقد ماركسي لجماعة الإخوان المسلمين. إذ إن النقد الماركسي الأول لهم، كان في كتاب (الإخوان المسلمون في الميزان) لمحمد حسن أحمد، والذي صدر في عام 1946. وقد رد الإخوان المسلمون على هذا الكتاب بكتاب كتبه أنور الجندي في العام نفسه، عنوانه (الإخوان المسلمون في ميزان الحق).
محمد حسن أحمد اسم مستعار لعبد الرحمن الناصر الذي كان عضواً في منظمة إسكرا (الشرارة) الشيوعية.
ولا يفوتني بعد أن فرغت من الحديث عن الأهمية التاريخية لكتاب (مصريون... لا طوائف)، أن أشير إلى ملحوظة تتعلق بعام إصداره. بين يدي نسخة في بيانات نشرها أنها صادرة عن دار النيل للطباعة عام 1951، وفيها مقدمة كتبها المؤلف بتاريخ مايو (أيار) 1951. ولقد رأيت على شبكة الإنترنت، إعلاناً عن بيع نسخة من هذا الكتاب، مكتوب في بيانات نشرها أنها صادرة عن دار النيل للطباعة عام 1951، لكن شكل غلافها يختلف عن شكل غلاف النسخة التي لدي، وقد كتب فيها تحت العنوان تنويه بأنها الطبعة الأولى، في حين أن محمد جلال كشك يذكر في عدد من مؤلفاته في صفحة (صدر للمؤلف)، أن الكتاب صدر عام 1950.
وأحتاج إلى مزيد من البحث للتأكد: هل الكتاب صدر لأول مرة عام 1950 أو عام 1951؟ وإن كان الكتاب قد صدر عام 1950، فسيكون صادراً دون مقدمة من المؤلف.
في كتاب محمد جلال كشك (ثورة يوليو الأميركية: علاقة عبد الناصر بالمخابرات الأميركية)، والذي صدر قبل مذكرات عبد القادر الشهاوي بما يزيد على عشر سنوات - في حاشية من حواشيه - رواية أخرى للقصة التي رواها الشهاوي.
يقول جلال كشك في هذه الحاشية: «في أوائل عام 1950، اقترح الرفيق (س..) إنشاء حزب للفلاحين يرأسه خالد محمد خالد الذي كان وقتها يمثل شخصية أسطورية خرجت من ملفات الثورة الفرنسية، وقد تم اللقاء بين الرفيق (س..) وخالد محمد خالد، ووافق الأخير فعلاً على الفكرة، وكان واضحاً أنه يدرك هدف الحزب الشيوعي الذي كان يمثله (س..) في هذا الوقت. ولكن قيادة الحزب الشيوعي جبنت وتخلت عن الفكرة، بل واتهمت (س..) بأنه يحاول عمل تنظيم منافس للحزب، والاحتفاظ بالخلايا التي كان (س..) نفسه قد كونها في الصعيد (ملوي أساساً). ومن هذا التاريخ انسحب (س..) من الحزب الشيوعي. ولذا يرجى ممن يتناولون كتابات (س..) في تلك الفترة أن يراعوا هذه الحقيقة. فهي بلا شك متأثرة بخط الحزب ولكن لا تعبر عن رأي الحزب، ولم تصدر بإيعاز منه، بل يمكن القول إنها بلا استثناء كانت ضد إرادة الحزب وصدرت قرارات بحظر قراءتها على الأعضاء الملتزمين.
حرف السين لا يرمز به جلال كشك إلى الاسم الأول أو الاسم الأخير، لهذا الرفيق في الحزب الشيوعي المصري (الراية)، بل استعمله بطريقة الرمز بـ«سين من الناس». فالرفيق (س..) في هذه القصة، هو راويها محمد جلال كشك.
ويعني بكتاباته كتابه (مصريون... لا طوائف)، وكتابه (الجبهة الشعبية) الذي صدر عام 1951، وكتابه (قانون الأحزاب) الذي صدر عام 1952. وهي الكتب التي أصدرها باسمه الأول المركب: «محمد جلال».
إشارته إلى كتاباته، أو كتبه الثلاثة التي لم يسمها، ومطالبته بأن يفصل الدارسون بين ما جاء فيها، ورأي الحزب الشيوعي المصري (الراية)، وأن يعرفوا أنها لم تصدر بإيعاز منه، كانتا بمثابة ردّين متأخرين جداً على ما ورد عن اثنين منها في كتاب طارق البشري (الحركة السياسية في مصر 1945 – 1952) الصادر في طبعته الأولى عام 1972.
طارق البشري في كتابه هذا، وهو يتحدث عن مشكلة ندرة وثائق الحزب الشيوعي المصري (الراية)، قال: «ولا يكاد يحفظ حالياً إلا كتيبان أصدرهما محمد جلال الذي كان عضواً بالتنظيم، أحدهما صدر باسم (مصريون... لا طوائف)، والآخر باسم (الجبهة الشعبية) وقد تبين من الاتصال الشخصي، أن الكتيب الأول لم يكن يمثل وجهة نظر التنظيم، إذ انتقد التنظيم هذا الكتيب وصاحبه على ما ظهر من انحراف فيه عن خط التنظيم، أما الكتيب الثاني فقد قيل إنه يمثل وجهة نظر التنظيم بشكل عام مما سيشار إليه فيما بعد، وقيل إنه أيضاً لم يكن يمثل وجهة نظره».
طارق البشري – كما ذكر – استمد معلوماته عن هذا الحزب من مقابلات شخصية مع بعض قادته.
ونرى هنا أن «بعض قادته» أجمعوا على أن الكتاب الأول (مصريون... لا طوائف) لم يكن يمثل رأي الحزب، بل فيه انحراف عن خطه. واختلفوا حول الكتاب الثاني، بين رأيين: رأي يقول إنه يمثل وجهة نظر الحزب على نحو عام، ورأي يقول إنه لم يكن يمثلها.
«بعض القادة» الذين كانوا متفقين على الكتاب الأول في الرأي، ومختلفين على الكتاب الثاني في الرأي، هم – كما ذكر أسماءهم طارق البشري في الهامش - الدكتور فؤاد مرسي الذي أجرى مقابلة شخصية معه في 4 مايو 1969، والدكتور إسماعيل صبري عبد الله، وداود عزيز، اللذان أجرى معهما مقابلتين شخصيتين في 24 مايو 1969.
وفي السطر الأول من عرضه للكتاب الثاني (الجبهة الشعبية) وضع له هامشاً في أسفل الصفحة. وما جاء في هذا الهامش، هو ما قال عنه، إنه سيشار إليه فيما بعد.
يقول في هذا الهامش: «هذا الكتيب حسبما أمكنت المعرفة من سؤال الكثيرين، لا يعتبر من وثائق التنظيم وما كان مكلفاً بكتابته ولكن قيل أيضاً إنه كان يعبر بشكل ما عن فكر التنظيم. ومن مطالعته يَبين اتفاق الأسس العامة التي بني عليها الكتيب مع الاتجاهات العامة للتنظيم في القضايا الأساسية، ولذلك وجبت الإشارة إليه هنا».
قال جلال كشك في رده المتأخر جداً على طارق البشري: «ومن الغريب أن مؤرخاً في علم وحيدة الأستاذ طارق البشري يبذل جهداً، لا مبرر له في البحث عن صلة كتاب (الجبهة الشعبية) بالحزب الشيوعي مع أنه كتب على غلافه بصريح العبارة: هذا رأي محمد جلال الشخصي، ولا يعبر عن رأي أي حزب أو تنظيم.
ومن الممتع أن نفس الشخص الذي طلب وأصر على أن توضع هذه العبارة على الكتاب تبرؤاً منه، عاد بعد ثلاثين سنة، ينتحل الكتاب ويزعم أنه كان من توجيهات الحزب!».
هذا الشخص هو الدكتور فؤاد مرسي سكرتير الحزب الشيوعي (الراية)، والذي عرَّض به مرتين في كتابه.
في الأولى قال: «نعم من حقكم أن تعرفوا أن انقلاب يوليو لم يكن ثورة بل الثورة المضادة التي دبرت لإجهاض الثورة الحقيقية ... فقد كانت مصر حبلى بنذر ثورية (كان الحزب الشيوعي يتحدث عن ثورتنا المقبلة التي باعها بعد ذلك بكرسي الوزارة في خدمة العسكر) بل نحن نعتقد...».
وفي الأخرى عرَّض به، وهو يتحدَّث عن مصادر شعار التأميم في السنوات التي سبقت تطبيق عبد الناصر لهذا الشعار. وكان من ضمن المصادر التي عددها كتابه (الجبهة الشعبية).
قال عن المصدر الأول، الذي هو عنده «منشورات فتحي الرملي، وهو اشتراكي من الرواد المصريين. ومن أوائل الذين تنبهوا إلى خطورة التغلغل اليهودي في الحركة الشيوعية المصرية. فكان جزاؤه الإقصاء العام من المجرى العام لهذه الحركة، وإبعاده عن الصحافة ما يزيد على ربع قرن بتهمة الشيوعية في الوقت نفسه الذي كان فيه سكرتير الحزب الشيوعي مقرباً في كرسي الوزارة!». هو يعرِّض به لتوليه وزارة التموين في عهد الرئيس أنور السادات لما يزيد على السنة بقليل. فقد تولاها في شهر يناير (كانون الثاني) 1972، واستقال منها في شهر مارس (آذار) 1973.
الصحافي الشيوعي فتحي الرملي كان على قيد الحياة إلى مطلع شهر يونيو (حزيران) عام 1977. أما الدكتور فؤاد مرسي فقد توفي في 13 سبتمبر (أيلول) 1990.
يدعي الدكتور محمود الشرقاوي في مقال له منشور على موقع (الجزيرة. نت) عنوانه (منظر الثورة على الثورة: محمد جلال كشك والنضال في زمن الملكية والجمهورية)، أن طارق البشري «صاحب كشف». ففي مقاله هذا قال: «أخرج جلال كشك وهو طالب شاب كتابه (مصريون... لا طوائف)، ثم أتبعه بكتابه الذي أثار ذعراً وقلقاً لدى دوائر الحكم حينئذ، وهو كتاب (الجبهة الشعبية) الذي ظل سراً مكتوماً إلى أن كشف عنه المستشار الفقيه المؤرخ الراحل طارق البشري في كتابه (الحركة السياسية في مصر 1945 - 1952).
فقد كان الاعتقاد السائد لدى الدوائر المختصة أن الكتاب صادر عن منظمة شيوعية تحمل الاسم نفسه، وعزز من ذلك الاعتقاد أن الكتاب كان يدرس داخل الخلايا الشيوعية السرية كمنهج دراسي خاص؛ حتى أشار أخيراً طارق البشري إلى أن صاحب الكتاب هو الباحث المتفرد محمد جلال كشك الذي اعتقل بسببه بتهمة التدبير لقلب نظام الحكم، ولم تسقط عنه القضية إلا بعد حركة الضباط عام 1952».
نقلت لكم فيما تقدم ما قاله طارق البشري عن كتابي (مصريون... لا طوائف)، و(الجبهة الشعبية)، اللذين لم يقل فيهما إن صاحب هذين الكتابين هو محمد جلال كشك أو جلال كشك، فهل قوله: «أصدرهما محمد جلال الذي كان عضواً في التنظيم» يعد كشفاً لسر مكتوم؟!
غلافا هذين الكتابين، مكتوب عليهما أن المؤلف اسمه محمد جلال، وكذلك غلاف كتاب (قانون الأحزاب)، فأين الكشف فيما هو مسطور على الغلاف؟
محمد جلال كشك منذ أن أصدر كتابه (شرف المهنة: قصة الصحافة والمهنة) عام 1961، خصص في عدد من مؤلفاته صفحة يذكر فيها أسماء كتبه وسنة طباعتها، ويشير - متفاخراً - إلى أن طبعات الكتب الثلاثة السالفة نافدة. ويقول عن الكتاب الأول: هجوم جريء على الطائفية. ويقول عن الكتاب الثاني: الكتاب الذي حدد اتجاه الثورة المصرية. أي أنه حدد اتجاه ثورة 23 يوليو قبل حصولها. ويقول عن الكتاب الثالث: أول تحليل علمي لثورتنا، أي ثورة 23 يوليو. فمحمد جلال كشك أعلن على الملأ في كتب مطبوعة منذ عام 1961، أنه هو محمد جلال صاحب كتاب (مصريون... لا طوائف) وكتاب (الجبهة الشعبية) وكتاب (قانون الأحزاب).
وكان أول كتاب له استخدم فيه اسمه الكامل: محمد جلال كشك، هو كتاب (روسي وأميركي في اليمن) الذي صدر عام 1957.
أما عن معلومة و«كان عضواً في التنظيم»، فقد كان منذ الستينات الميلادية، في بعض كتبه ينص في صفحة التعريف بنفسه على أنه «كان شيوعياً وترك الحزب الشيوعي في سنة 1951».
مقال الدكتور محمد الشرقاوي منشور في موقع (الجزيرة. نت) بتاريخ: 13 / 3 / 2021، ومع ذلك يقول في مقاله «حتى أشار أخيراً طارق البشري إلى أن صاحب الكتاب هو الباحث المتفرد محمد جلال كشك». يقول «أخيراً»، رغم أن المدة الزمنية التي تفصل ما بين تاريخ نشر مقاله، وصدور الطبعة الأولى من كتاب البشري، تدنو من نصف قرن!
«الباحث المتفرد محمد جلال كشك»... هذه الجملة الإطرائية التي نسبها إلى طارق البشري تدخل في فن الكذب المحض. في ذلك الوقت الذي ألفَّ طارق البشري فيه كتابه لا يمكن - بوازع من عقيدته اليسارية - أن يقول تلك الجملة الإطرائية عن جلال كشك، لأنه كان عدواً مبيناً للشيوعية وللشيوعيين منذ أول الستينات الميلادية. ولو افترضنا أن وازعه العقدي اليساري ضعف قليلاً، وحدثته نفسه أن يقولها، فإنه لن يقولها، لأنه يعرف جيداً أنْ سيصدر بحقه حرْماً كنسياً ماركسياً كبيراً. وهذا يقودني إلى الحديث عن العثرات المنهجية التي وقع طارق البشري فيها مع تفسيرها.
أولاها، أن محمد جلال، قال في غلاف كتابه (الجبهة الشعبية): «هذا رأي محمد جلال الشخصي، ولا يعبر عن رأي حزب أو تنظيم». فلماذا غيّب عن القارئ هذه المعلومة؟! كان عليه أن يذكرها في كتابه، وأن ينطلق منها سؤالان لبعض قادة الحزب الشيوعي (الراية)، هما: هل هذا التنبيه من محمد جلال أو من الحزب؟ وهل هو لحماية الحزب أو لأن الكتاب لا يعبر تماماً عن رأي الحزب؟
ثانيتها: أنه تعمد إقصاء محمد جلال كشك، فلم يأخذ بأقواله مع أنه طرف أساسي في هذه القضية، لأنه هو مؤلف الكتابين، والاكتفاء برأي الدكتور فؤاد مرسي والدكتور إسماعيل صبري عبد الله وداود عزيز، مع أنه يعرف أنهم القادة الخصوم له، وأنه يجب عليه أن يستشهد بأقواله مع أقوالهم.
تعمد إقصاءه لأنه كان منحازاً لهم ومخاصماً لكشك؛ لحملاته العنيفة على الشيوعية وعلى الشيوعيين والعلمانيين قاطبة في مصر في ستينات القرن الماضي.
ثالثتها: أنه أخفى عن قارئ كتابه أن محمد جلال هو محمد جلال كشك، لكيلا يمنحه تشريفاً بأنه هو صاحب كتابي: (مصريون... لا طوائف) و(الجبهة الشعبية)، تواطؤاً مع نفسه الأمَّارة بالانتقام اليساري ومع عداوة الثلاثة الذين أجرى معهم مقابلات شخصية له.
أخفاها مع أنها معلومة معلنة ومطبوعة في كتب كشك التي تمتاز بميزتين: تعدد طباعتها، وسعة انتشارها في مصر والعالم العربي. كل هذا يجعلني أسحب من رد جلال كشك المتأخر جداً على طارق البشري شهادته له بالحيدة.
إن طارق البشري يمتاز في مرحلته الماركسية وفي مرحلته الإسلامية، بإيهامك أنه موضوعي مع أنه ليس بموضوعي... وللحديث بقية.