عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الأصل كانت الكلمة المطبوعة

أثبتت السلطة الرابعة مكانتها التقليدية، بعد أن كنت فقدت الأمل في عودة المهنية إلى مستواها المعتاد في الصحافة البريطانية (خصوصاً المرئية). قلة خبرة وتعجل الذين درسوا الصحافة نظرياً في الجامعات بلا تدريب على الواقع كانا وراء شكوك جيلنا في قدرة الأجيال الأصغر، بجانب دور وسائل التواصل الاجتماعي والافتقار إلى الدقة، والتهافت على الإثارة لجذب المشاهدين إلى شاشات التلفزيون.
الملاحظة الأهم كانت تأكيد أن الصحافة الحقيقية هي المكتوبة ومحور اهتمامها الإنسان، فتحدد الأجندة الإخبارية، كما فعلت «التايمز» العريقة، التي تأسست في 1785 على يد واحد من أشهر صحافيي القرن الثامن عشر، جون والتر الابن (1776 - 1847).
ربما مصادفة إعادة الهيبة للصحافة المكتوبة كانت لتذكير المؤرخين بدور «التايمز»، أو ربما في «الجينات الوراثية» الكامنة في فليت ستريت، أشهر شارع صحافة في العالم. فبجانب أن والتر الذي ورث تأسيس الصحيفة عن أبيه جون والتر (1739 - 1812) بتطويرها من مطبوعة «ديلي يونيفرسال ريجيستر» (سجل الأحداث العالمية)، جاء توقيت إطلاقها في ظروف تناسب التعريف المفضل للخبر الصحافي لعملاق الصحافة الإنجليزية اللورد نورثكليف (1865 - 1922)، وكان رئيس تحرير «التايمز» منذ 1908 حتى وفاته، «الخبر هو حدث أو معلومة تريد جهات معنية إخفاءها، وما عدا ذلك فريكلام (إعلان دعائي)». «التايمز» عند انطلاقها قبل قرنين وثلاثة عقود، جاءت كنبوءة لتعريف الخبر مائة عام قبل صياغته، ركزت على نشر الأخبار الخارجية والدولية، خصوصاً من الهند؛ أخبار كانت المؤسسة الحاكمة تحاول حجبها عن الرأي العام، كخسائر الحروب وشكوى كثير من أبناء المستعمرات من معاملة الإدارة الإنجليزية. في الفترة نفسها كان المسؤولون في برلمان وستمنستر (مجلس العموم) يطاردون الصحافيين (وكانوا يسمون الكتبة والطباعين وقتها) بالسيوف أحياناً لمنعهم من نشر ما يدور في أروقة ولجان المجلس؛ وتفنن الصحافيون في تهريب التقارير إلى المطابع في شارعي فليت ستريت وفيترلين المتعامد معه، حيث تركزت المطابع. ولم يعترف قانونياً بحقوق المجموعة الصحافية البرلمانية (التي أنتمي إليها لأكثر من عقدين) كمؤسسة برلمانية موجودة شرعياً ولها منصة خاصة داخل القاعة ومكاتب لها حرمتها في قصر وستمنستر إلا في عام 1803 بعد قبول رئيس البرلمان وقتها اللورد تشارلز أبوت (1757 - 1829) طلب ممثلي الكتاب والصحافيين وجود مقر دائم لهم في البرلمان كسلطة رابعة هي عين الشعب لمراقبة أداء ممثليه، وإصدار قرار برلماني ومرسوم ملكي بذلك.
هذا الأسبوع أنجزت «التايمز» خبرياً، بالمفهوم النورثكليفي، ما لا تستطيعه شبكات التلفزيون (فالكاميرا والميكروفون يفضحان حاملهما)، وهو الانفراد بخبر افتراس القوي للضعيف، وتفاصيل تحاول مؤسسة الأقوياء حجبها ومنع نشرها أمام الرأي العام، بفضل موضوع مباحثي تحقيقي، أو ما يعرف في الصحافة المصرية بالتعبير البوليسي «المخبر الصحافي».
مراسل «التايمز» التحق موظفاً بوكالة تحصيل ديون تعهد إليها شركات توفير الطاقة (الكهرباء والغاز) - وهي قطاع خاص في بريطانيا - بجمع المستحقات من الزبائن المتأخرين في دفع الفواتير، وعمل معها محصلاً ومنفذاً لأوامر قضائية من المحكمة تمنح ممثلي الوكالة إذناً بالدخول إلى مساكن المديونين للشركات. الصحافي المتنكر بعد عدة أشهر كشف ممارسات غير إنسانية ولا أخلاقية تحت غطاء قانوني عليه علامات استفهام لتعمد سوء تفسير تفاصيل تنفيذ القوانين.
دفع فواتير الطاقة كان وحتى سنوات قليلة أمراً مبسطاً سهلاً بتسجيل قراءة عداد الكهرباء أو الغاز، والفارق بين قراءتي الشهر هو الاستهلاك، ويتلقى الزبون الفاتورة وأمامه ثمانية وعشرون يوماً لدفعها. في السنوات الأخيرة، ومع الاتجاه العالمي لتعقيد أبسط الأمور في الحياة اليومية، بدأت شركات الطاقة، تصنيف الاستهلاك بلوائح شتى، حسب مصادر الطاقة، سواء من فحم أو غاز أو زيت أو كهرباء هيدروليكية، لتتنوع الأسعار، ليس فقط حسب طريقة توليد الطاقة أو تكلفة توصيلها لمناطق الاستهلاك، بل أيضاً حسب طريقة الدفع. والطريقة المفضلة (لصالح الشركة وليس المستهلك) هي ما يعرف بالتحصيل البنكي المباشر من حساب المستفيد (دايريكت ديبيت)، وهو غير أمر الدفع (ستادنينغ أوردر)، فالأخير يحدد الزبون قيمته من حسابه البنكي، والأول يوقع عليه ويمنح الشركة الحق في تحصيل ما تراه مناسباً في اليوم المتفق عليه مباشرة من البنك. الشركات بدأت تحصل أكثر من قيم الاستهلاك مقدماً، وبنت رصيداً يصل الملايين (أي أن المستهلك يقرضها بلا فوائد). وهناك فقراء بلا دخل ثابت أو حساب بنكي، فثبتت الشركات في بيوتهم عدادات ببطاقات شحن يدفع أسعارها مقدماً، وهي أغلى التعريفات سعراً، أي أن الفقراء يدفعون ثمناً أعلى من الأغنياء.
مراسل «التايمز» كشف كيف يقتحم محصلو الديون بيوت الفقراء، وكبار السن والمعاقين، ويثبتون هذه العدادات. وبالطبع عندما تفرغ بطاقة الشحن، ولا يملك الفقير ثمن إعادة شحنها، يعيش وأسرته بلا تدفئة أو إضاءة أو وقود للطهي.
شبكات التلفزيون والإذاعة تلقفت الخبر، واستجوبت مديري الشركات. نواب البرلمان أثاروا الأمر في مجلس العموم، والمكتب القومي لمراقبة شركات الطاقة أصدر تعليمات بالتوقف عن إجبار المتأخرين في دفع الفواتير على تغيير العدادات إلى أخرى بنظام بطاقات الشحن المدفوعة الأجر مقدماً.
الملاحظ أن صحافيي الإذاعات والشبكات التلفزيونية لم يطرحوا الأسئلة الأهم، وهي كيفية الحصول على الإذن القضائي بفرض هذا النوع من العدادات إجبارياً؟ وهل كان القضاء عادلاً؟
مرة أخرى تمكنت الصحافة المكتوبة من التوصل إلى «الخبر»؛ المعلومة التي تحاول المؤسسة الحاكمة حجبها عن الرأي العام.
تمكن مراسل من صحيفة «الإندبندنت» (أول صحيفة يؤسسها الصحافيون أنفسهم بقروض من البنوك في 1986) من حضور جلسة محكمة لمنح صلاحيات تركيب العدادات، التي تجري في قاعات خاصة لا يسمح للجمهور بحضورها، بعكس المحاكم الإنجليزية المفتوحة للجمهور.
في العام الماضي، أصدرت المحاكم 367 ألف إذن لشركات الطاقة بتركيب عدادات الدفع بكارت الشحن (118 ألفاً في الربع الأخير من 2022) غيابياً بلا منح الزبون فرصة الدفاع. الصحافي شهد إصدار القاضي (العادل؟) 496 حكماً «بالجملة» لصالح شركات الطاقة في أقل من أربع دقائق.
ومهما بلغت إمكانيات التلفزيون والإذاعة وقوتهما، فالذي تمكن من وضع قضية معاناة فقراء الطاقة «الغلابة» أمام جبروت شركات الطاقة وأداء القضاء على أجندة البرلمان واهتمام الرأي العام، ليطالب الحكومة بإنصاف غير القادرين على فواتير التدفئة، صحافيان من الصحافة المكتوبة لا نجوم التلفزيون.