د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

الصمت التكتيكي

حينما تتعرض دولة ما لعدوان خارجي، كغارة جوية سريعة؛ تعلن المتضررة عن «الاحتفاظ بحقها في الرد». وهو صمت استراتيجي لتجنب حرب لا يمكن التنبؤ بتداعياتها. وهي فكرة وجيهة لا تنم عن ضعف، بل درس لنا معشر البشر للتروي قبل التورط في هجوم على أي عدوان لفظي أو جسدي.
في السياسة، تطور مفهوم المقاطعة الاقتصادية، فصارت أوروبا وأميركا تخنق روسيا خنقاً التي تدهور اقتصادها بسبب شنها أول حرب في القارة العجوز بعد الحرب العالمية الثانية. إذن، حالة الصمت التي يعيشها العالم، هي عقوبة هادئة للبلد الذي تشكل مساحته ثلث أوروبا، وضعفي أميركا.
وفي الفنون، والعلوم، والإدارة، هناك أطياف من الصمت التكتيكي. فهناك عالم يتجاهل تفاهات المتطفلين على تخصصه. وفنان حقيقي لا يكترث بانتقادات الحاقدين. وفي الإدارة يُنصح باستخدام «الصمت الاستراتيجي» (strategic silence)، فهو ليس فقط الامتناع عن الرد المتسرع فحسب، بل هو أعمق؛ إذ يُقصد به تجميع الأفكار حتى تحين اللحظة المناسبة لطرحها. فما أكثر الأفكار التي يتم تجاهلها أو تسفيهها لأنها طُرحت في التوقيت الخطأ. ولذلك كان مدى الملاءمة والاستعداد والاستجابة عوامل مهمة لقبول الأطروحات.
البعض يقتله سلاح الصمت تجاه إساءاته. فمن الناس من يحاول استفزاز غيره بكلامه وتصرفاته. سألت ذات يوم وزير التعليم في الكويت والبرلماني اللامع الدكتور أحمد الربعي: ما سبب عدم ردك على الإساءات؟ فقال: لا أرد إلا على بعض المعلومات المغلوطة، أحياناً. وأضاف: «الرد يشهر الشخص الذي يحاول أن يسيء للآخرين» (انتهى كلامه). ولهذا قال الشافعي:

إِذا نَطَقَ السَّفيهُ فَلا تُجِبهُ فَخَيرٌ مِن إِجابَتِهِ السُّكوتُ
فَإِن كَلَّمتَهُ فَرَّجتَ عَنهُ وَإِن خَلَّيتَهُ كَمَداً يَموتُ

والصمت الاستراتيجي كما يعرفه قاموس «أكسفورد» الإنجليزي، هو: تعمد تجاهل الرد لهدف استراتيجي. وهو ليس صمتاً بسبب تقاعس إداري أو رقابي.
وعلى صعيد الموظفين، قرأت في إحدى الدراسات المنشورة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، أن الصمت الاستراتيجي للموظف يجعله ينعم بتقييم أداء إيجابي.
والصمت كما تعرفه الدراسة المنشورة في دورية «OBHDP»، يشمل تعمد الموظفين الاحتفاظ ببعض الأفكار والآراء والهواجس إلى أن تأتي اللحظة المناسبة.
مشكلة من يفتح النار في أول مواجهة، أنه قد تنفد ذخيرته (حججه) مبكراً. فهناك من يكتفي بتعليق مبهم، على طريقة «نحتفظ بحقنا في الرد»، ثم يمنح نفسه متسعاً من الوقت للتفكير بهدوء في عواقب تصرفاته.
ولأن كثيراً من قراراتنا، المشوبة بالعاطفة، ندفع ثمنها غالياً، فما إن يغيب هذا المثير حتى تهدأ النفس، وتبدأ بالتفكير بعقلانية. وهو تكتيك صِرنا بحاجة ماسّة إليه في عصر الانفلات الإعلامي أكثر من أي وقت مضى. فلا تكاد تجد مشادة ولا مشاجرة إلا وقد رصدتها كاميرات الهواتف، وربما سماعاتها الخفية!