ميرزا الخويلدي
كاتب و صحفي سعودي
TT

الثقافة المربحة... المدن المبدعة ثقافياً

هل يمكنك أن تزور القاهرة دون المرور بالأهرامات، بالمتحف المصري؟ هل يمكن لزائر لندن أن يتجنب المتحف البريطاني؟ أو أن لا يلتفت لمتاحف الفنون والمعارض التشكيلية هناك، أو يهمل متاحف واشنطن العاصمة، أما باريس فهي قطعة من الثقافة موزعة في كل جادة، أهمها اللوفر، وهكذا قرطاج والقيروان وأصيلة وبغداد... فالثقافة تمثل أحد أهم عناصر الجذب السياحي، وأحد روافد الاقتصاد والمعيشة للناس... بمعنى أن الحديث عن أن الثقافة ملازمة للعوز والفقر واستنزاف الميزانيات هو حديث الكُسالى عديمي الحيلة لا غير!
في أوج ازدهارها، قبل جائحة «كورونا»، استقبلت أهرامات مصر عام 2019 قرابة 10 ملايين زائر، وكانت أكثر المعالم التي قصدها السياح في العالم، والرقم مرشح للارتفاع إلى 15 مليوناً، أما في باريس فقد بلغ عدد زوار متحف اللوفر عام 2019 أقل بقليل من 10 ملايين زائر، وكان المتحف سجل في العام الذي سبقه (2018) رقماً قياسياً تجاوز 10.2 مليون زائر، في العادة يحتل المتحف البريطاني قائمة الأماكن الأكثر جذباً في إنجلترا، بنحو 6.5 مليون زائر سنوياً، ولندن مشهورة بمتاحفها التي تمثل الوجه الثقافي والحضاري للبلاد، مثل المتحف البريطاني، الذي يضم كنوز التاريخ الإنساني، وكذلك معارض الفنون التشكيلية مثل المتحف والمعرض الوطني في «ترافلغار سكوير»، وهو قبلة المهتمين وهواة الفن التشكيلي، ومثلها متحف «فيكتوريا وألبرت»، الذي يستعرض نحو 2.3 مليون قطعة فنية أثرية عالمية، وغيرها.
نعم يمكن للثقافة أن تتحول إلى منتج اقتصادي منافس، وهذا يحدث إذا تم الاهتمام بصناعة المنتج الثقافي، وتفعيل «الصناعات» الثقافية، حتى إن اتفاقية «اليونيسكو» لعام 2005، بشأن «حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي»، وهي تقر في مقدمتها أنه «لا يمكن اعتبار الثقافة مجرد سلعة تُباع وتُشترى، لأن وسائلها تحمل مختلف أشكال التعبير الثقافي المعاصرة لأفكارنا، وتجسد هوياتنا وتطلعاتنا»، إلا أنها تدعم الآليات التي تشجع الابتكار، وتعزز نشوء صناعات ثقافية وإبداعية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وبالنسبة للسعودية؛ تعطي الرؤية الجديدة أولوية للاهتمام بالثقافة باعتبارها أحد محركات التحول والتغيير والتنمية وتحسين جودة الحياة، ونلحظ التوجه السريع نحو تحقيق هذا الهدف عبر ضخ الروح في المواقع التراثية والأثرية وإحياء دور المدن المبدعة في مجالات الثقافة والأدب.
هذه البلاد لديها ذخيرة هائلة وغنية في التراث والحضارة يمكن أن يعبر بها نحو العالم، إلى جانب الأماكن والمواقع والشخصيات التاريخية والأدبية التي عاشت في الجزيرة العربية، ومثلت علامة فارقة على هامة الإبداع العربي، فالسعودية تحفل بالكثير من المواقع التي احتضنت الذاكرة العربية، تاريخاً وتراثاً وشعراً، مثل سوق «عكاظ» الذي كان قبل 13 قرناً من الزمان يمنح العرب موسماً سنوياً للشعر والأدب والتعريف بالشعراء، وإجازة النوابغ ووضع موازين للقوافي ومعايير للأدب الرفيع، وانتخاب أفضل القصائد لتصبح من المعلقات، ومنح علامات الجودة للنص الشعري، كما يوفر للشعراء مسرحاً بصرياً يستعرضون فيه مهاراتهم اللغوية والبلاغية والجمالية، لتحلق في آفاق رحبة، حيث كانت تضرب للنابغة الذبياني قبة حمراء من أدم، فيأتيه الشعراء ليعرضوا عليه أشعارهم.
ومثله، ديار حاتم الطائي في حائل، وأطلال «خولة» التي طالما تغنى بها طرفة بن العبد، ومرابع عنترة بن شداد في القصيم، وذكريات ابن المقرب العيوني في الأحساء. وكلها يمكن أن تمثل ذاكرة نابضة بالتاريخ والأدب وشاهدة على أصالة الإنسان وتجذره.
ومؤخراً كُشف عن مبادرة للجمعية الوطنية للمحافظة على التراث بالتعاون مع وزارة الثقافة لتسجيل القطيف مدينة مبدعة في مجال الأدب لدى «اليونيسكو»، وهذا التحرك مثير للأهمية، أولاً لأنه يلتفت إلى الثقافة والأدب الشعبي، خصوصاً في المجتمعات التي لديها تاريخ من الإنتاج المحلي للثقافة والأدب، وبعض هذه المجتمعات لم تكن تلتفت حتى لموروثها الأدبي، وهو في القطيف مثلاً يمثل جزءاً عميقاً من الحكاية والرواية والقصة والأسطورة والشعر واقتناء الكتب والمكتبات الشخصية التي لا يخلو منها بيت والصالونات الأدبية وحضور المرأة والعادات الثقافية الزاخرة التي يتعودها السكان ويتوارثونها... هذه عينة لعشرات النماذج للمجتمعات السعودية نجدها في الجنوب والشمال والغرب التي تقدم الثقافة جزءاً من الحياة اليومية، والتي تحتضن التراث الثقافي وتعده جزءاً من هويتها.