حنا صالح
كاتب لبناني
TT

تحدي فتح مسار إخراج لبنان من أزماته!

أزمة عميقة يعيشها لبنان مرتبطة في جانب أساسي منها بخللٍ وطني تعمق مع انقلاب قيادات «14 آذار» على «انتفاضة الاستقلال»؛ ما سهّل لاحقاً غزوة بيروت ومؤتمر الدوحة وما أفضى إليه من منح «حزب الله» حق الفيتو على الدولة. وهكذا، من رئاسة ميشال سليمان إلى رئاسة ميشال عون وسنوات الشغور في الرئاسة والفراغ في السلطة، لم تتم أي محاولة للتصويب باتجاه معالجة الخلل الوطني في ميزان القوى.
تعمقت الهوة في العقد الأخير، واتسع تغول الدويلة، وتراجعت أدوار كل الآخرين، فارتضوا حصصاً تُركت لهم؛ لذلك لم يعد من معنى للسؤال عن دورهم لوقف الخلل؛ فهم ارتاحوا إلى وضعهم، وإلى القسمة التي وفّرها لهم قانون انتخاب هجين طيّف الانتخابات!
في ظلِّ تعليق العمل بالدستور، تم فرض شغور رئاسي ترافق مع فراغ في السلطة نتيجة تخطيط منع تأليف الحكومة، معطوفاً على تماهٍ قديم مع سياسات تجويف المؤسسات وتغييب الرئاسة التي باتت واجهة بروتوكولية لجمهورية مقيدة. ومن شعار «حزب الله» لرئيس تثق به «المقاومة» وتطمئن إليه، أو لا رئيس، إلى اندفاعة التوريث العونية، وصولاً لنهج اعتبر الرئاسة محطة تعويض، بزعم أن انتخاب الرئيس يؤمّن الرئاسة - المرجعية، مع تعامٍ عن واقع أن الانتخاب محكوم بمشيئة «الثنائي المذهبي» وأولوية تغطية السلاح الميليشياوي! تكرر الالتقاء الموضوعي بين الفرقاء لاستنساخ رئيس لا يعبر عن هموم الأغلبية التي تطحنها الانهيارات. وتأكد مجدداً أن «خلافات» الأطراف الظاهرة لا تطمس التماهي بين «معارضة» النظام و«موالاته» ضد الناس؛ فخيارهم كان وما زال تعويم نظام المحاصصة الطائفي: لا عودة للدستور ولا محاسبة ولا إصلاح، لأنه يضرب مصالح المافيا المتحكمة!
- كانت وحدات الجيش اللبناني في جرود عرسال قد أحكمت الطوق على مجموعات «داعش» الإرهابية، وتنتظر الأوامر لشن الهجوم الأخير ليل 25 أغسطس (آب) 2017. والهدف تطهير المنطقة واعتقال الإرهابيين لمحاسبتهم أمام القضاء، فتتأمن العدالة للبنان، خصوصاً للعسكريين الذين خُطفوا عام 2014، وقُتلوا بدم بارد. لكن الأمر الذي صدر فجر 26 منه قضى بوقف الهجوم بذريعة «التفاوض»!
ويوم 28 أغسطس أُصيب الناس بالذهول أمام مشهد الحافلات المبردة تنقل 308 إرهابيين من جرود عرسال إلى دير الزور، تحت حراسة الأمن السوري وميليشيا «حزب الله»!
ويروي المطلعون أن الخط الساخن في القصر الجمهوري لم يتوقف تلك الليلة، عن ممارسة الضغط على القيادات العسكرية بوجوب وقف الهجوم، وكان له ما أراده «حزب الله»، وحُرم الجيش من تحقيق الانتصار ولم تتحقق العدالة للضحايا! جرى ذلك في مطلع «العهد القوي» إثر «التسوية» المشينة، وتعامت حكومة «الوحدة الوطنية» عن مسؤوليتها. حدث ذلك قبل سنتين ونيف على اندلاع ثورة «17 تشرين» 2019. وتكررت بعد الثورة النماذج الشبيهة، لتكون الحصيلة ضربات متلاحقة قاصمة ظهر الدولة ومدمرة لحقوق اللبنانيين ومصالح لبنان وإمكانية النهوض.
- يوم 20 سبتمبر (أيلول) 2021، اقتحم وفيق صفا (مسؤول الأمن في «حزب الله») قصر العدل و«زار» رئيس مجلس القضاء الأعلى الرئيس سهيل عبود، ناقلاً الاحتجاج على أداء الرئيس طارق البيطار المحقق العدلي في جريمة تفجير المرفأ وبيروت: «هيك ما في يوصل لمحل. من أول ما إجا وهوي عم بودي إشارات هي مصدر ريبة وشكوك بالنسبة إلنا، يلي عم يعملو مش شغل قضائي. نحنا عنا ارتياب مشروع فيه»!
ومن داخل قصر العدل بعث صفا برسالة إلى البيطار شدد على ناقلها أن يبلغه بالحرف: «رح نقبعك بالقانون. وإذا ما مشي الحال بالقانون، بتعرف كتير منيح كيف نقبعك مش بالقانون»! تجاهلوا هذه الضربة للقضاء والعدالة، ولاحقاً تم تجميد عمل المحقق، وتعطيل التحقيق في جريمة الحرب ضد بيروت، التي أدت لإبادة جماعية (240 قتيلاً) وترميد قلب العاصمة، ليصبح لبنان من دون مرفأ رئيسي لأول مرة منذ الفينيقيين!
- مع الإعلان عن الانهيار في عام 2019، وتوقف المصارف عن الدفع، كانت الاحتياطات العامة نحو 33 مليار دولار هي ودائع للمواطنين، فبدأت السلطة إدارة الشأن المالي والاقتصادي والاجتماعي، عبر تعاميم من «البنك المركزي». أوكلوا المهمة إلى الحاكم سلامة الملاحق أمام القضاء الأوروبي، بتهم غسل الأموال. وكان الهاجس تذويب المتبقي من الودائع، فنُفذ «هيركات» قسري لا قانوني دفع المواطن تكلفته فتراجعت ديون المصارف للمودعين... ومن ثم ابتدعت منصة صيرفة بذريعة تأمين العملة الأجنبية لتغطية الاستيراد، فتأمنت الأموال للنافذين وللميليشيات عبر الحدود، إلى أن سُمِحَ للموظفين والمتقاعدين بأن يتقاضوا رواتبهم بالدولار، وفق تسعيرة صيرفة، ثم يبيعونها في السوق السوداء بفارق نحو 10 آلاف ليرة للدولار. ومن التعاميم إلى «صيرفة» تعمق الانهيار مع تراجع الاحتياطات إلى ما دون الـ9 مليارات دولار!
لم يعترض على نهج الإدارة الخطرة للتفليسة أي طرفٍ سياسي في «معارضة» النظام أو «موالاته»، بل ارتاحوا إلى نمط الرشوة التي طالت ما بين 350 و400 ألف من الموظفين والعسكريين والمتقاعدين، تحولوا إلى «مضاربين»، ورهانهم تحقيق بعض الوفر، بعدما نهبت المافيا المتسلطة جنى أعمارهم. الأكيد أن إقرار هذه الرشوة لم ينبع من حرص على مصالح المواطنين، بل هو جزء من ممارسة تهدف إلى شراء الوقت، وصرف اهتمام الناس عن أولوية مواجهة منظومة النيترات التي أرسلت لبنان إلى الجحيم!
وحدها ثورة «17 تشرين» 2019 التي قامت على التمسك بالدستور قدمت خياراً آخر للبنانيين؛ طالبت بدولة حديثة ضمانة للسيادة وللمساءلة والمحاسبة والعدالة والفرص المتساوية وحماية للحريات وحق الاختلاف. طرحت البديل عن الدولة المزرعة الموزعة على القوى الطائفية. لذلك استهدفت وخوِّنت بعد فشل تطويعها، ليتباهى حسن نصر الله بقمعها. لكن إخراج الثورة من بعض الساحات لم يحل دون استقرارها في البيوت والعقول، لتصدم الطائفيين في صناديق الاقتراع في أكبر تصويت عقابي استهدف كل الطبقة السياسية.
المرحلة انتقالية بامتياز تفترض، مع انكشاف اللصوصية والتبعية، تغييراً جذرياً لكسر الحلقة الجهنمية. مطلب قيام الدولة الحديثة لا يتحقق مع قوى الفساد والارتهان، قوى «التوافق» الطائفي ونظام الرشوة، حيث استغلَّ النفوذ لتزوير التشريع، وسنِّ القوانين خدمة لمصالح المحظوظين. إنه تحدٍ نوعي تعرفه القوى التشرينية الساعية لاستنباط وسائل بلورة قطب شعبي موازٍ، ومع العطب في أداء أغلبية النواب الذين أوصلتهم الثورة، كما غياب النخب، فإن المبادرة وتوافر الإرادة والشروع في التنظيم عناصر يعوّل عليها لقيام «الكتلة التاريخية» البديل السياسي والضمانة لفرض حكومة الناس القادرة على إعادة تكوين سلطة انتشال لبنان!