جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

فرص السلام... والمسارات الإجبارية

الغيوم السوداء في شرق أوروبا تعني بالضرورة، أن الأمطار على وشك السقوط، رائحة البارود طوال عشرة أشهر مضت، لا تعني أن المنطقة عقدت صداقة أبدية مع خريف الاستقرار.
أتحدث عن الأزمة الروسية - الأوكرانية، التي قادت الرأي العام العالمي إلى حالة من التوحد مع التعقيد، وعدم الوصول إلى حلول قريبة.
للوهلة الأولى، تبدو هذه الصورة صحيحة، وأن فرص السلام بعيدة، بعد أن باتت خرائط العالم تئن من تداعيات سياسية واقتصادية وأمنية.
الأزمة على صعوباتها وتعقيداتها لا تخلو من مساحات تفاؤل تؤكد أن فرص السلام قائمة، وليست مستحيلة، وهنا ربما يتساءل البعض: ما مؤشرات ودلالات فرص السلام، وإنهاء الحرب في هذه الأزمة؟
السؤال منطقي جداً، لا سيما أن طرفي الصراع لم يجلسا معا على طاولة المفاوضات منذ شهر مارس (آذار) الماضي، وأن ما يطرحه كل طرف لمسألة السلام، بعيد تماما عن رؤية وتصور الجانب الآخر، لكن هنا إجابة السؤال ربما تقودنا إلى واقع حقيقي، يتم الترتيب والإعداد له خلال المرحلة المقبلة، وأن نتائجه قد تفضي إلى حلول حقيقية، تقود إلى سلام عالمي، ليس فقط في شرق أوروبا، لكن في مناطق أخرى في العالم.
أول هذه الترتيبات والشواهد التي تؤسس لعملية سلام حقيقية، تنطلق من إدراك كل الأطراف أن الجميع خاسر من هذه الحرب، فعلى سبيل المثال، نجد أن الولايات المتحدة، (الإدارة الديمقراطية)، باتت تعاني من تداعيات سلبية لهذه الأزمة، تتمثل في ارتفاع معدلات التضخم لأعلى مستوى لها منذ عام 1982، الأمر الذي انعكس على خسارة الديمقراطيين بمجلس النواب في الانتخابات النصفية للكونغرس، بما سيؤثر على قدرة الرئيس جو بايدن، على تأمين إرسال المساعدات العسكرية والاقتصادية إلى أوكرانيا، بالوتيرة والقوة نفسهما اللتين كانتا مع بداية الأزمة.
علاوة على أن الرئيس الأميركي يواجه الآن تحدياً في منتهى الخطورة، يتعلق بالعلاقة الأميركية - الأوروبية، بعد أن اشتكى القادة الأوروبيون علانية، وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتس، من القرارات الأميركية التي وصفوها بـ«الأنانية»، التي تهدد بنقل الصناعات من أوروبا إلى أميركا، والتربح من بيع الغاز والأسلحة الأميركية إلى أوروبا.
على الجانب الآخر، نجد أن الحسابات الروسية في هذه الأزمة لم تأتِ بالنتائج التي كان ينتظرها الكرملين، فإطالة أمد الحرب تسببت في خسائر على كل المستويات الروسية، وأربكت حسابات وتقديرات ما قبل الحرب، فعلى الصعيد الاقتصادي، تتوقع موسكو أن ينكمش الاقتصاد الروسي بنسبة 4 في المائة، علاوة على خسائر أخرى تتجاوز تريليون دولار، متمثلة في تجميد الأصول والأموال الروسية في الخارج، بالإضافة إلى تسع حزم من العقوبات الاقتصادية والتجارية، غير المسبوقة، في التاريخ على الاقتصاد الروسي، وإقرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بوقوع خسائر كبيرة في صفوف الجنود الروس، مما قاده إلى اتخاذ قرار التعبئة الجزئية للجيش الروسي.
الخسائر نفسها لم ينجُ منها الطرف الأوكراني، فقد خسرت أوكرانيا نحو 15 في المائة من أراضيها، وفقدت نحو 50 ألف جندي من قواتها المسلحة، ونحو 40 ألف مدني، وتدمير شبه كامل للبنية التحتية، لا سيما المتعلقة بالطاقة، وأن أوكرانيا - في أفضل الأحوال - سوف تحتاج إلى نحو 400 مليار دولار لإعادة الإعمار، ومائة مليار دولار لإعادة توطين نحو عشرة ملايين أوكراني باتوا لاجئين في مختلف دول العالم.
جغرافياً، الأزمة لم ترحم أيضاً القارة العجوز من سداد فواتير باهظة، تتعلق باحتمالية انقطاع الكهرباء والطاقة عن المواطنين الأوروبيين خلال فصل الشتاء المقبل، عطفاً على أن المؤشرات الأوروبية سجلت تراجعاً كبيراً في معدلات النمو، خصوصاً النمو الصناعي الذي كان يعتمد على الغاز الروسي الرخيص.
إذن كل الأطراف المباشرة، وغير المباشرة للأزمة، باتت تعاني كل طلعة شمس من خسائر متلاحقة، وهو ما يدفعها إلى التفكير جدياً في البحث عن حلول لإيقاف هذه الأزمة.
ثاني مؤشر، يؤكد فرص السلام، هو الدعوة المباشرة والعلانية، وغير المسبوقة، من جانب الجنرال الأميركي مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية لأوكرانيا، للدخول في مفاوضات مع روسيا، لإنهاء الصراع، وهنا يمكننا قراءة دعوة الجنرال ميلي بأنها تخشى تمدد الصراع إلى دول أعضاء في حلف الناتو، الأمر الذي ربما يقود واشنطن إلى حرب مباشرة مع روسيا، واندلاع حرب عالمية ثالثة، قد لا تبتعد كثيراً عن سيناريوهات الحرب النووية، خصوصاً في ظل الحشد والتهديد النووي من طرفي الصراع، وذلك يأتي وسط معلومات، تؤكد امتلاك روسيا نحو ألفي قنبلة نووية «تكتيكية»، جاهزة للحرب، في مقابل معلومات أخرى تقول: إن الولايات المتحدة، وحلف الناتو حشدا 450 قنبلة نووية تكتيكية، في الجناح الشرقي لحلف الناتو.
المؤشر الثالث، والدافع الرئيسي لجلوس أطراف الصراع حول طاولة المفاوضات، يتعلق بتراجع مخزون السلاح لدى الطرفين، الروسي والأوكراني، وعدم قدرة الداعمين الرئيسيين في واشنطن، وبروكسل، على تعويض هذا الفاقد من الأسلحة الدقيقة، فهذا النوع من الصناعات يعتمد بشكل رئيسي على سلاسل الإمداد التي تعاني منذ اليوم الأول لبداية الأزمة.
أما المؤشر الرابع، فينطلق من حالة تتسم بفقدان الحماسة للاستمرار في هذه الأزمة، وهذا ما تترجمه المظاهرات التي تندلع يومياً في العواصم الأوروبية، والولايات المتحدة ضد الحرب، كما يؤكد المعنى نفسه مطالبات قطاع كبير من الروس، للبحث عن وسيلة لإيقاف النزف المستمر جراء هذه الأزمة.
إذن، نحن أمام مؤشرات، تؤكد وجود فرص حقيقية لتحقيق السلام، وإنهاء الأزمة، فلم تعد لدى العالم رفاهية المشاهدة فقط، فالجميع يدفع ثمن هذا الصراع.