حازم صاغية
مثقف وكاتب لبناني؛ بدأ الكتابة الصحافية عام 1974 في جريدة «السفير»، ثم، منذ 1989، في جريدة «الحياة»، ومنذ أواسط 2019 يكتب في «الشرق الأوسط». في هذه الغضون كتب لبعض الصحف والمواقع الإلكترونية، كما أصدر عدداً من الكتب التي تدور حول السياسة والثقافة السياسية في لبنان والمشرق العربي.
TT

خامنئي في أوكرانيا!

في أواسط الخمسينات كسرت مصر وسوريّا ما عُرف بـ«احتكار السلاح الغربيّ» في الشرق الأوسط. القرار كان كبيراً وخطيراً وأهدافه كانت كثيرة: الأنظمة الجديدة، العسكريّة والأمنيّة، أرادت أن تصبغ نفسها بلون خاصّ تتميّز به عن الألوان التي اتّصفت بها أنظمة الأعيان التقليديّين. إلى ذلك، وما دام أنّ الاستعمار الغربيّ قد رحل، بات ينبغي لسلاحه أن يصحبه، كما بات مطلوباً أن ينكمش عموم التبادل الخارجيّ معه لصالح ما يتيسّر من تبادل مع خصومه الشيوعيّين. وأخيراً، فإنّ الصراع مع إسرائيل يستدعي الحصول على سلاح غير ذاك الذي تحصل عليه إسرائيل. وإذا كانت البندقيّة الغربيّة لا تقاتل بندقيّة غربيّة أخرى، فإنّ السلعة الوحيدة التي تُعرف روسيا السوفياتيّة بتصديرها هي السلاح، وهو يُقدّم بسخاء لكلّ من يطلبه.
«الجماهير العربيّة» دعيت إلى الترحيب بالقرار فرحّبت. ذاك أنّ الأنظمة الانقلابيّة ذات الشرعيّة الضعيفة أرادت بإنجاز كهذا أن تقوّي شرعيّتها، وكلّما علا الضجيج أمكن لـ«الشرعيّة الجماهيريّة» أن تسدّ مسدّ الشرعيّة الدستوريّة.
والحال أنّ من الصعب الدفاع عن الاحتكار، أيّ احتكار، أو عن التسلّح، أيّ تسلّح، لكنْ يبدو، أقلّه بمعيار زمننا الراهن، أنّ المسألة ما كانت تستحقّ الضجيج الذي أثارته. فقد كان من الممكن حلّ الأمر بشكل آخر، هادئ وتدريجيّ، بوصفه امتداداً لعمليّات نزع الاستعمار، وتعزيزاً لا بدّ منه للعناصر السياديّة في الدول حديثة الاستقلال.
ما حدث، في المقابل، أنّ السلاح السوفياتيّ عزّز النظام الأمنيّ - العسكريّ في منطقتنا، وضرب استقرار المنطقة النسبيّ واحتمالات تطوّره التدريجيّ، رابطاً الشرق الأوسط على نحو محكم بالحرب الباردة في أوروبا الغربيّة والشرق الأقصى. أمّا بالنسبة إلى إسرائيل تحديداً، فجاءت نتائج الامتحان الكبير في حرب 1967 شهادة مضادّة تخالف كلّ النظريّات التي برّرت «كسر احتكار السلاح الغربيّ».
سبب هذه العودة إلى أواسط الخمسينات أنّ المنطقة ربّما كانت تعيش راهناً تحوّلاً استراتيجيّاً من عيار «كسر احتكار السلاح».
فلنتابع بعض عناوين الهلع كما ظهرت في الأيّام القليلة الماضية:
- وفق تقديرات جون كيربي، الناطق بلسان مجلس الأمن القوميّ الأميركيّ، تمارس روسيا وإيران اليوم شراكة دفاعيّة كاملة: الأولى تقدّم للثانية مستوى غير مسبوق من الدعم العسكريّ، وهما تحضّران معاً لإنتاج مسيّرات (درونز) مشتركة. شراكة كهذه ستكون، حسب كيربي، مؤذية «لأوكرانيا ولجيران إيران وللمجتمع الدوليّ». المتحدّث الأميركيّ إيّاه لم ينكر مخاوف بلاده من نيّة روسيا «تزويد إيران مكوّنات عسكريّة متقدّمة»، بما فيها أنظمة دفاع جويّ وطائرات هليكوبتر.
- وزير خارجيّة بريطانيا جيمس كليفيرلي، اعتبر أنّ إيران أصبحت «أحد الداعمين العسكريّين الأساسيّين لروسيا»، وأنّ العلاقة بينهما تهديد «للأمن العالميّ»، وهذا، في رأيه، ما يضاعف المخاطر التي قد تواجه «شركاءنا في الشرق الأوسط». فوق هذا، نبّه كليفيرلي إلى أنّ الدعم الإيرانيّ لروسيا سوف يتزايد في الأشهر المقبلة، فيما تعمل الأخيرة على امتلاك مزيد من الأسلحة، بما فيها مئات الصواريخ الباليستيّة.
- أستراليا أدلت بدلوها هي أيضاً، فأعلنت فرضها عقوبات على إيرانيّين، وعلى مؤسّسات إيرانيّة، بسبب تزويدهم روسيا مسيّرات للاستخدام في أوكرانيا. وزيرة خارجيّتها بينّي وونغ، أصدرت بياناً اعتبرت فيه أنّ ذاك التزويد «شهادة على الدور الذي تلعبه إيران في تخريب استقرار الأمن العالميّ».
- وكانت أوكرانيا نفسها قد اتّهمت طهران بأنّها قدّمت لموسكو مسيّرات «كاميكازيّة» هي نفسها التي استُخدمت في 17 أكتوبر (تشرين الأوّل) الماضي. طهران نفت ذلك في البداية، لكنّها ما لبثت أن أقرّت بإعطائها موسكو عدداً محدوداً من تلك المسيّرات «قبل الحرب بأشهر كثيرة». وبدوره كذّب الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلنسكي، الرواية الإيرانيّة، وذكر أنّ القوّات الجويّة الأوكرانيّة أسقطت ما بين 10 و15 مسيّرة من هذا الصنف أُطلقت على جنوب البلاد، وألحقت أضراراً هائلة بالبنى التحتيّة وشبكة الكهرباء.
تقودنا تلك التفاصيل وسواها إلى حقيقة التحالف العسكريّ الروسيّ - الإيرانيّ الكامل، الذي تتأدّى عنه مشاركة طهران في الحرب الأوكرانيّة. فكما «يحقّ» لروسيا أن تتدخّل في سوريّا إلى جانب إيران، «يحقّ» لإيران أن تتدخّل في أوكرانيا إلى جانب روسيا. أمّا النظريّة وراء هذا التحوّل فجاهزة مثلما كانت جاهزة إبّان «كسر احتكار السلاح الغربيّ»: إنّها بالطبع ضرب الواحديّة الأميركيّة والاستكبار الغربيّ إلخ... ومثلما أفضت النظريّة الأخيرة إلى سياسات تدخّليّة رعاها عبد الناصر، وامتدّت، خلال الستينات، من اليمن إلى الكونغو، مثلما رعاها فيديل كاسترو في النصف الثاني من السبعينات، وقادت قوّاته إلى أنغولا وأثيوبيا، تستأنف إيران هذه الوظيفة اليوم: بلد مفلس، يواجه ثورة شعبيّة وتحكمه قبضة أمنيّة مستبدّة، يكلّف نفسه «تحرير» شعب مقهور ومظلوم. وقد يقال إنّ إيران الخمينيّة مؤهّلة لنشاط تدخّليّ كهذا، هي التي تمرّنت عليه في أربعة أو خمسة بلدان عربيّة. لكنّ أوكرانيا البعيدة تمثّل تحوّلاً نوعيّاً على هذا الصعيد؛ تحوّلاً يقول الكثير عن إيران وعن روسيا وعن دورهما في صناعة أحوالنا الرديئة.