فيودور أورنوف
TT

علاج الأمراض بتعديل الحمض النووي... لماذا لا نفعل؟

كتب والدا فتاة عمرها سنتان أنَّ ابنتهما «يمكن أن تتوفى في السنة التالية»، لأن طفرة وراثية تسبب فشلَ قلبها.
وكتب رجل في منتصف الثلاثينات من عمره، يحمل حمضه النووي خطأ جينياً من المؤكد أنه سيُدمر دماغه في غضون سنوات: «الوقت ينفد سريعاً أمامي».
كما كتبت والدة لها ولدان يعانيان من جين معيب يؤثر في الإدراك، والكلام والحركة: «قلبي ينفطر ألماً وأنا أرى ولداي ينهاران أمام عيني». وأضافت أن أحدها لا يزال يمشي ويدرس في الكلية، لكنها «مسألة وقت فقط قبل أن يضطر للجلوس على كرسي متحرك ويتدهور إدراكه».
تصلني قصص لمثل هذه المآسي الإنسانية عبر صندوق بريدي بانتظام متزايد ومؤلم للغاية. ويراسلني الناس لمعرفة ما إذا كنت أستطيع تحضير عقار لإصلاح جيناتهم وتفادي الوفاة المبكرة والوشيكة. ولا يرتبط رجاؤهم هذا بالمستقبل: فالعديد من العلماء، وأنا من بينهم، يعكفون بالفعل على تصميم إصلاحات بالحمض النووي، ويتخذون من ذلك وسيلة لكسب العيش.
من جانبهم، وافق آلاف الأشخاص، خلال العشرية الماضية، على الخضوع لتجارب هندسة وراثية ضمن اختبارات تجريبية لتطوير هذه العلاجات - ولإنقاذ حياتهم. وجرى اقتراح مثل هذه الإصلاحات، أو العلاجات الجينية منذ 50 عاماً، وبدأت في التطور الجاد منذ عام 1989. وبعد تجارب متقطعة وغير منتظمة، وصل أول العلاجات الحقيقية للأطفال الذين ولدوا من دون جهاز مناعي فعال في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
والآن، يوجد العديد من أدوية العلاج الجيني المعتمدة. تنطوي كلها على التعامل مع فيروس، من خلال استبدال محتوياته المؤذية بواسطة جين مُعالج للمرض، ثم حقنه في شخص ما (أو تعريض خلايا الشخص لذلك الفيروس في صحن وإعادتها مرة أخرى). وبرغم فاعلية هذه العلاجات، فإنها تظل مرهقة في البناء وتكلفتها باهظة للغاية. على سبيل المثال، يكلف العلاج الجيني المعتمد حديثاً للأشخاص المصابين باضطراب النزف الوراثي 3.5 مليون دولار، محققاً رقماً قياسياً للزجاجة المخصصة للاستخدام لمرة واحدة، ما يجعله الدواء الأغلى في العالم.
أما تعديل الجينات، فيعد تكنولوجيا أحدث بكثير وتقوم على المكاسب التي جرى تحقيقها بمجال العلاج الجيني. إلا أنه بدلاً عن استخدام فيروس، يعتمد تعديل الجينات على آلة جزيئية تسمى «كريسبر»، والتي يمكن توجيهها لإصلاح طفرة جينية في أي كائن حي تقريباً، في موضع وجود «الخطأ الجيني» تماماً. وتتنوع تطبيقات «كريسبر» متعددة الاستخدامات والممكنة بشكل مثير للإعجاب ما بين العلوم الأساسية إلى الزراعة ومكافحة التغيرات المناخية. وفي الطب، يتيح تعديل الجينات بتقنية «كريسبر» للأطباء إصلاح الأخطاء الجينية بصفة مباشرة داخل الحمض النووي للمرضى. كما أُحرز الكثير من التقدم الجوهري في مجال الطب الوراثي حتى بات من الواضح أن العلماء حققوا الآن حُلماً رائعاً، ألا وهو السيطرة على الحمض النووي.
وكان أول شخص خضع للتعديل الوراثي بتقنية «كريسبر»، قد خضع للعلاج قبل ثلاث سنوات فقط من اضطراب في إنتاج خلايا الدم الحمراء. ومنذ ذلك الحين، استخدمت هذه التكنولوجيا في علاج العمى الخلقي، ومرض الخلايا المنجلية، وأمراض القلب، وأمراض الأعصاب، والسرطان وفيروس نقص المناعة المكتسبة. وبرغم أن جميع الأمراض لا تملك أساساً جينياً واحداً، فإن معظمها لديها مكون جيني. وتشير الدراسات المبكرة إلى أن حالات مثل أمراض القلب، والألم المزمن، ومرض ألزهايمر، يمكن علاجها جميعا باستخدام تكنولوجيا «كريسبر». وقد وصفت الدكتورة جينيفر دودنا - الحائزة جائزة نوبل في الكيمياء عام 2020 رفقة الدكتورة إيمانويل شاربنتييه بفض جهودهما في مجال تعديل الجينات بتكنولوجيا «كريسبر» - هذا الحدث بأنه: «فرصة ذهبية لتحسين مستوى الرعاية الصحية لدى الكثيرين».
الآن، يستطيع العلماء مثلي، تصور سيناريو مثالي لمستقبل أدوية «كريسبر»: عندما تبدأ طفلة تبلغ من العمر 3 أشهر في الإصابة بعدوى مقاومة المضادات الحيوية، يطلب طبيب الرعاية الأولية الخاص بها إجراء اختبار الحمض النووي، وبعد 48 ساعة، يتحدَّد الجين المعيب الذي يمنع تطوير النظام المناعي الطبيعي. وحينها يقول الطبيب للوالدين المنكوبين: «ليست مشكلة. سنحيل الطفلة إلى العلاج التصحيحي بتقنية (كريسبر). وسوف يغطي التأمين العلاج الذي يستغرق شهرين كاملين».
وإليكم ما سيحدث خلال هذين الشهرين: سيتلقى مركز متخصص لعلاجات «كريسبر» في مستشفى تابع للجامعة التشخيص، ويُحوله إلى نموذج طلب موجه لمنشأة تصنيعية لصناعة الدواء الذي سيُصحح الجين المعيب. بعد شهر من الاختبارات ومراجعة البيانات من قبل أطباء المستشفى وعلماء الجامعات، يحقن الطبيب الدواء المعتمد على تكنولوجيا «كريسبر» ببساطة من خلال الوريد. وبعد الإقامة لمدة ثلاثة أيام في المستشفى للتأكد من أن تعديل الجينات قد جرى وفقاً للخطة، تعود الطفلة إلى منزلها.
وتماماً كما كانت تكنولوجيا «كريسبر» ذات يوم ضرباً من ضروب الخيال العلمي، كذلك قد يكون كل شيء ذكرناه في الفقرات السابقة - لكن كل خطوة من تلك العملية أصبحت ممكنة من الناحية الفنية اليوم.
وتوضح الأمثلة الواردة من مختلف أرجاء العالم إمكانات ما يمكن أن تنجزه تكنولوجيا «كريسبر»، فقد استخدمت حديثاً في الصين لعلاج طفلين يبلغان من العمر 7 و8 سنوات مصابين بحالة وراثية تتعلق بمرض الخلايا المنجلية المسمى «بيتا ثلاسيميا». قبل العلاج، لم يكن الطفلان قادرين على تكوين خلايا دم حمراء طبيعية، وكانا يحتاجان إلى نقل الدم كل أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع. وفي غضون شهر بعد تلقيهما الخلايا المعدلة وراثياً، توقفت عمليات نقل الدم. وحتى بعد ثمانية عشر شهراً، ظلت أعراض المرض غائبة تماماً عن الطفلين.
كان التقدم هائلاً أيضاً في الولايات المتحدة وأوروبا، إذ نجحت شركتا التكنولوجيا الحيوية «كريسبر ثيرابيوتكس» و«فيرتكس» في علاج 31 شخصاً يعانون من مرض الخلايا المنجلية، والذين لم يعودوا يعانون من نوبات الألم الموهنة التي تتسم بها حالتهم. وهناك شركة أخرى للتكنولوجيا الحيوية، تسمى «إنتيليا ثيرابيوتكس»، تعاونت مع شركة «ريجينيرون» للصناعات الدوائية واستخدمتا «كريسبر» في تثبيط جين سام محمل بخطأ وراثي في أكباد 15 شخصاً. وبعد شهر واحد فقط من هذا الحقن، تلاشى 93 في المائة من السُم من مجرى دم المرضى الذين تلقوا أعلى جرعة من دواء «كريسبر». كما تطور شركة «فيرف ثيرابيوتكس» علاجاً بمعاونة «كريسبر» لأمراض القلب، مع التركيز المبدئي على شكل وراثي حاد من هذه الأمراض. وإذا حققت «فيرف ثيرابيوتكس» هدفها الطموح المتمثل في توسيع هذا النهج ليشمل المرضى الذين يعانون من النوع الشائع من أمراض القلب، فربما يحل أحد التعديلات الجينية محل الأدوية اليومية، مثل الأدوية المُخفضة للكوليسترول. ويستخدم الأطباء في أماكن أخرى «كريسبر» لاختبار علاج الأشخاص الذين يحملون فيروس نقص المناعة المكتسب، من خلال استبعاد الحمض النووي للفيروس خارج جهازهم المناعي. وإذا نجحت التجربة، فمن الممكن أن يستفيد منها نحو 40 مليون شخص. لكن السؤال: هل سيفعلون ذلك؟
هناك ما يصل إلى 400 مليون شخص في مختلف أنحاء العالم يعانون من واحد من 7000 مرض ناجم عن الطفرات الجينية المنفردة. والعلماء مدينون لهم ولعائلاتهم بالصدق بشأن حجم الهوة ما بين أنبوب الاختبار في المختبر والخط الوريدي في المستشفى. واللافت أن العقبات الكبرى هنا ليست فنية فحسب، وإنما قانونية، ومالية، وتنظيمية.