أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

هل ثمة عملية عسكرية تركية وشيكة في سوريا؟

يبدو واضحاً تصميم حكومة أنقرة وعزمها القيام بتوغل عسكري جديد في شمال وشرق سوريا بدعوى إنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كيلومتراً على طول الحدود، واستكمالاً لما سمّته عملية «المخلب - السيف» التي لا تزال تطول، قصفاً بالمدفعية والطائرات المسيرة، بعض المواقع والقيادات الكردية، وذلك بعد 3 عمليات عسكرية سابقة؛ «درع الفرات 2017» و«غصن الزيتون 2018» و«نبع السلام 2019»، وجميعها مكّنت القوات التركية من السيطرة على مناطق أوسع فأوسع من الشريط الحدودي السوري.
العزم والتصميم لا يتعلقان فقط بقوة الذريعة التي تستند إليها أنقرة لمواجهة ما تعتبره إرهاباً كردياً، وكردٍّ انتقامي على التفجير الذي حصل في 13 نوفمبر (تشرين الثاني)، في منطقة «تقسيم» وذهب ضحيته 6 قتلى وعشرات الجرحى، وتم تحميل مسؤوليته لوحدات حماية الشعب الكردي، وأيضاً لأن ثمة رهاناً على نجاح التوغل في ضرب عدة عصافير بحجر واحد. أولاً، توفير ما يشبه المنطقة الآمنة للضغط على اللاجئين السوريين وحضّهم على العودة، خاصة إن تمكنت القوات التركية من السيطرة على مناطق مهمة، كمنبج وتل رفعت وعين العرب «كوباني»، ثانياً، ضمان مزيد من النفوذ وحصة وازنة في المشروعات المحتملة لتقرير المستقبل السوري، ثالثاً، ضبط الوجود العسكري لفصائل المعارضة السورية التي بدأت تتنازع على الهيمنة، رابعاً، تمرير استمرار تهربها من التزامها بوضع حد لدور «جبهة تحرير الشام» المسيطرة على منطقة إدلب، خامساً، توخي تعديل الرصيد الشعبي المتراجع لحزب العدالة والتنمية الحاكم قبل الانتخابات العتيدة في يونيو (حزيران) المقبل.
صحيح أن الظرف الدولي والإقليمي يبدو ملائماً أمام حكومة أنقرة للقيام بتلك العملية العسكرية من دون توقع ردود أفعال حادة من الأطراف التي تتشارك تقرير المصير السوري، والتي تبدو منشغلة، إما بالحرب في أوكرانيا كحالتي روسيا وأميركا، وإما بأوضاع داخلية محتدمة كحالة إيران، وصحيح أن تركيا أعلنت رفضها لطلب واشنطن إلغاء التوغل العسكري، وتدرك مدى ارتفاع أسهمها والحاجة إلى موقعها في منظومة الأمن الغربي لمواجهة تداعيات الحرب الأوكرانية، لكن الصحيح أيضاً، ولنقل المرجح، أن تتريث أنقرة وتتحسب من دفع موقفها إلى الأمام وإعلان بدء التدخل العسكري من دون ضوء أخضر دولي، بداية من واشنطن، الموجودة بقواتها في المنطقة التي يشملها التوغل الجديد، ولا تزال تبدي اهتماماً بألا تضعف حليفتها «قوات سوريا الديمقراطية - قسد» أو تكسر شوكتها، فهي التي دعمتها لسنوات ومدّتها بالأسلحة لمواجهة «تنظيم داعش»، كما تعتبرها رأس حربة في ممارسة الضغوط على نظام دمشق والنفوذين الإيراني والروسي، بدليل أنها قدّمت عرضاً لأنقرة، لقاء إلغاء الخيار العسكري، يقوم على سحب قوات «قسد» إلى العمق السوري بعيداً عن الحدود التركية لمسافة 30 كيلومتراً.
وطبعاً لا يغير هذه الحقيقة تغاضي واشنطن عن الغارات الجوية المكثفة التي تقوم بها تركيا ضد مواقع الأكراد، ما دامت تأتي رداً على عمل إرهابي ضد المدنيين طالما أدانته، وما دامت تستطيع الإفادة منها في تحجيم تيار سياسي يتنامى ضمن «قسد» يدعو لتوسيع التفاهمات مع روسيا والنظام السوري، بما يتجاوز أولوية التنسيق معها، كما لا يغير الحقيقة الاتهامات التي تتصاعد عن خيانة واشنطن للأكراد، وما أشيع عن تفهم أميركي لعملية عسكرية تركية محدودة لا تحدث فارقاً كبيراً في المعادلات والتوازنات القائمة حالياً، ولا تؤدي لخلق حالة من عدم الاستقرار تستدعي تغييراً في الجهود والتكتيكات العسكرية الأميركية.
لا يختلف موقف روسيا من حيث الجوهر عن الموقف الأميركي في رفضه لتوغل أنقرة عسكرياً، وقد كثفت موسكو اتصالاتها مع الجانب التركي لإقناعه بالتخلي عن هذا الخيار، فهي المنشغلة بشدة بالحرب على أوكرانيا بعد الخسائر التي منيت بها قواتها هناك، وتحكمها خشية من أن يخلط التوغل التركي الجديد الأوراق، فيؤثر على وزنها ودورها في تقرير المصير السوري، بدليل مسارعتها لإعادة التموضع وتعزيز نقاطها العسكرية في شمال وشرق البلاد، واللافت أن موقفها لم يقم اعتباراً لكون العملية التركية تأتي في مواجهة نفوذ خصمها الأميركي، وربما تُكرهه على توجيه جزء من جهوده نحو سوريا على حساب ما يوظفه في الحرب الأوكرانية، أو حين تدرج في مواجهة إيران صاحبة الباع الطويل في سوريا، التي أعلنت غير مرة عدم موافقتها على توجه أنقرة نحو الحسم العسكري، وإن كانت إلى الآن لا تزال صامتة أو متفهمة للقصف والغارات، فربما لن تقف على الحياد عندما يعرّض التوغل التركي قوات «الحرس الثوري» والميليشيات الموالية لها الموجودة هناك لأي أضرار.
ونسأل من لا يزال يعتقد أن حكومة أنقرة سوف تتمسك هذه المرة بتصميمها وعزمها على تنفيذ توغلها العسكري في سوريا من دون توفير تفاهمات دولية وإقليمية؟ ألن يؤثر ذلك على فرص نجاحها وإمكانية تحقيق الأهداف المتوخاة؟ وماذا عن الخسائر المحتملة وحسابات التكلفة والثمن حين تلجأ الأطراف الدولية إلى سلاح العقوبات أو تغض النظر عن مقاومة كردية قادرة على إدارة حرب عصابات منظمة؟ ثم هل من ضامن ألا يغدو توغلها سبباً إضافياً لزيادة أعداد اللاجئين السوريين، وليس لإقامة منطقة آمنة وتخفيف ضغطهم على مجتمعها؟
وأخيراً، ألا يحتمل أن تزيد تلك النتائج من تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية، وتشجع الأتراك المترددين على حسم خيارهم ضد الحزب الحاكم في الانتخابات المرتقبة؟
والحال، من دون رضا دولي وإقليمي يطمئنها، من المرجح أن تتمسك حكومة أنقرة بلغة التهديد والوعيد، وبالقصف والغارات، لكن، من دون توغل عسكري لضم مزيد من الأراضي والمناطق، ولنتذكر جميعاً سيناريو الصيف المنصرم وتراجع تركيا عن تنفيذ توغلها، حين بدا ظاهرياً، قاب قوسين أو أدنى، ما يعني فتح الباب من جديد على مساومات تحاول من خلالها أنقرة كسب النقاط من دون تحريك القوات لتحسين نفوذها السياسي والأمني في سوريا، وربما توسيع المساومات لتشمل الانفتاح على النظام السوري والرهان على دوره لمواجهة قوات «قسد» وتحجيمها، حتى لو تم ذلك على حساب جماعات المعارضة السورية، خاصة تلك التي وضعت كل بيضها في السلة التركية.