حنا صالح
كاتب لبناني
TT

عن الرئاسة والجمهورية!

لعبة تعطيل البرلمان اللبناني، ومنعه من القيام بإحدى أبرز مهامه، وهي انتخاب رئيس للجمهورية، تمنح «حزب الله» الوقت والدور للمضي ببرنامجه الهادف إلى تكريس اقتلاع البلد واستتباعه. إنه الجهة التي تمتلك استراتيجية متكاملة تقوم على وضع رئيس تابعٍ في القصر الجمهوري: «تطمئن» إليه «المقاومة» ويبصم على مسلماتها التي تمر بالقصر الجمهوري ولا تنتهي بالبلد!
عندما حدّد لبنان الرسمي 25 مايو (أيار) عام ألفين عيداً للتحرير بعد جلاء آخر جندي إسرائيلي، كان القرار يعني نهاية الدور العسكري لـ«المقاومة الإسلامية». وبعد اتفاقية الترسيم البحري والاعترافٍ بالحدود و«الشراكة» في البلوك «رقم 9»، مع ما يعنيه ذلك من تطبيع اقتصادي، يكون المشهد تبدل جذرياً لجهة انتفاء الحاجة نهائياً إلى السلاح، فسارع «حزب الله» إلى وضعه على الطاولة لشد العصب واللعب على وتر الحرب الأهلية؛ كونه عنوان تغوله على الدولة و«تأبيد» تسلطه على اللبنانيين. لقد رسم نعيم قاسم بوضوح ملامح المشهد الجديد بأنه «انتهينا من المرحلة التي يقال بها هل نريد مقاومة في لبنان أو لا نريد، وأصبحنا في مرحلة يقال بها إن المقاومة أصبحت دعامة من دعامات لبنان لا يستطيع أحد أن يهزها»!
إنه السلاح «المنزه» عن أي بحث، في خلفية جلسات الانتخاب السريالي التي رسمت حدود قدرات وتوجهات «معارضة» النظام و«موالاته». فريق الورقة البيضاء الممانع حافظ على تقدم نسبي، لكنه بعيد عن بلوغ أكثرية النصف زائداً واحداً، وعاجز عن ضمان نصاب الثلثين. وفريق «معارضة» النظام، حدوده القدرة على تعطيل النصاب، فدفع هذا الواقع المرشح ميشال معوض إلى الإعلان أنه جاهزٌ لأن يخوض معركة المرشح «السيادي الإصلاحي إن وجد»، وذلك في أوضح تعبير يفيد بأن مسار ترشيحه بلغ نهايته!
بالسر وبالعلن تراهن أكثر الجماعات النيابية على الحوارات الجانبية، وهي واقعياً تدور في الكواليس ومع الخارج، في ازدراء لا مثيل له لدور البرلمان المنتخب منذ أشهر قليلة ومهامه. وتطلق الإشاعات من نوع أن المسألة اللبنانية على طاولات الكبار، وفي العمق يعلمون أن مآسي لبنان وشعبه صنعتها «النخبة المتسلطة» كما وصّفها البنك الدولي، والحل يبدأ من الداخل ولا حلّ بالتالي في لقاءات الكبار... لكن أوركسترا مؤثرة تخرج يومياً على الناس فتشغلهم مرة بتكبير حركة السفراء، وثانية بنسج القصص عن دور فاتيكاني، ولا تغفل الإشارة بعد قمة بايدن – ماكرون، إلى أن الأخير بصدد حوار مع طهران... وعلى الأرض بعدما حدد حسن نصر الله مواصفات الرئيس كاميل لحود أو ميشال عون، يستمر الشغور، وكأن الهدف ترسيخ التكيفٍ مع الشغور الرئاسي الذي لم يحدث تدهوراً إضافياً ويمكن الاستمرار لوقت دون رئيس جمهورية!
تَغيبُ عن أكثر الأطراف، ضرورة القراءة المتأنية لكل فترة ما بعد اتفاق الطائف، فمنذ قتل الرئيس رينيه معوض، ما من رئيس لبناني كان يملك القرار، إن في حقبة سيطرة جيش الاحتلال السوري على لبنان، أو بعد انتزاع «حزب الله» موقع جيش الاحتلال السوري، إثرَ غزو بيروت في 7 مايو 2008 ومؤتمر الدوحة. لقد استحال على المقيم في بعبدا مجرد المبادرة إلى تصويب أمر لو أراد، وهناك حزب مسلح اختطف الدولة وصادر قرارها ويمسك بالمؤسسات، ويقرر في كل شيء منفرداً ومن خارج السلطة! ومنحته التسوية الرئاسية في العام 2016 تأثيراً غير محدود، فإلى جانب رئاسة البرلمان، بات بين يديه «اختيار» رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية! هنا نفتح مزدوجين كي نشير إلى أنه مع الإقرار بنفوذ وقوة «حزب الله»، فهو لم يبلغ هذه الدرجة من التسلط لولا إمساكه زمام طبقة سياسية وضيعة، راكمت الثروات وهي لم تهاجر ولم تتاجر ولم ترث، بل كانت على الدوام مطايا للمتسلطين!
لنمعن في قراءة المشهد. عندما يقول نعيم قاسم إن «المقاومة» دعامة للبنان، يعني بقاء القديم على قدمه، كما أُنجِزَ تحت سقف «توافق» الطوائف الرئيسية، الذي حلّ مكان الدستور ومنح الكلمة الأخيرة فيه للأقوى! في السياق يتم تصوير الانتخابات الرئاسية بأنها مصيرية، إنه أمر فيه الكثير من المبالغة رغم براعة الزعامات الطائفية برسم سقفٍ مرتفع لهذا الاستحقاق مع ما يتطلبه من إلهاء المواطنين بموجات من الشحن الطائفي.
صحيح أن هاجس «حزب الله» تحريم تناول سلاحه، ويتبجح بأن الرئيس هو «من نريد»، لكن السؤال ماذا سيفعل بالرئاسة التي ينتوي الاستئثار بها 6 سنواتٍ إضافية؟ فتحت تسلطه بات الوطن في خطر، والدولة في خطر، والناس في أقصى البؤس، ويستحيل عليه التملص من المسؤولية المباشرة عما لحق اللبنانيين من إذلال!
لا تبدو خطوط التواصل بين الأطراف الطائفية مقطوعة، والأرجح أنه ضمن موازين القوى الراهنة، عندما تصل الإشارة من طهران، بوجوب انتخاب رئيس لـ«إقليم» لبنان، قد يجنح «الحزب» إلى صفقة ثنائية وثلاثية؛ لأن الأولوية إنقاذ هيكل السلطة المتداعي؛ كون ذلك يحمي المصالح الخاصة ويصون الحصص والمنافع، ويسهّل حل أزمات نظامهم القائم على الصفقات والبدع. وما يجري الآن على مسرح برلمان ساحة النجمة أشبه بتحضير الأجواء لمخرج سيصور استعادة «الوحدة» بأنها الرد على تعاظم الانهيارات!
لذلك؛ ينطلق أطراف نظام المحاصصة الغنائمي من إدراكٍ بأن كرة الانهيارات باتت تفوق قدرات القوى التي أخذت مجتمعة البلد إلى الحضيض.
ومن هذه الخلفية يمكن فهم الاستفاقة المتأخرة لتشريع قوانين ظاهرها إنقاذي، فيسرفون في الحديث عن حماية الودائع المنهوبة، في حين باطنها تأمين الحصانات للمرتكبين، ويراهنون أن الجلبة النيابية ستصرف الناس عن اهتزاز كل النظام الدستوري والسياسي والاقتصادي والمالي والاجتماعي، وصولاً إلى العطب الكبير الذي شلّ السلطة القضائية، وجعل لبنان بلداً خارج العدالة!
إنه الخلل الوطني كرّس هذا المنحى، ومكّن «حزب الله» الذي طوّع شركاءه في المحاصصة، من إحكام قبضته على لبنان مستفيداً من الدعم المالي والتسليحي المفتوح من النظام الإيراني. واستطراداً، فإن حجر الرحى في معالجة هذا الخلل، يكون بممارسة سياسية مختلفة لجعل الاستحقاق الرئاسي قضية الناس. والوسيلة الأنجع هي المضي بترشيح عصام خليفة كشخصية سيادية إصلاحية مستقلة، لم تعرف لا التلوث الأخلاقي ولا الفساد السياسي، ولا ولاء لها إلا للدولة وللشعب، ولا أولوية عندها إلا الشأن العام.
يُعدُّ مثل هذا المنحى رسالة بأنه في مكان ما هناك قوى إنقاذية يستحيل تطويعها أو استيعابها وليست جزءاً من الفولكلور الرئاسي السريالي المدمر، والأهم أن أولويتها استنهاض القوى التشرينية حتى بلورة قطب سياسي شعبي بديل: «الكتلة التاريخية» العابرة للمناطق والطوائف لاستعادة الجمهورية والقرار والدستور، حتى يكون للرئاسة المعنى والدور وأساس المرجعية الوطنية.
قول غرامشي عن وضع يحاكي الوضع في لبنان: «تكمن الأزمة تحديداً في أن القديم يحتضر، بينما الجديد لا يستطيع أن يولد بعد، وفترة الالتباس هذه بين العتمة والنور تظهر شتى أنواع الأمراض». الأكيد أن غرامشي لم يتوقع حجم الأمراض التي تسببت بها منظومة النترات للبنانيين!