منحت الأفلام السعودية المعروضة في الدورة الثانية من مهرجان «البحر الأحمر»، المتابع والجمهور عموماً، فرصة التعرف على مواهب وأفكار وأساليب يسعى المخرجون لتجسيدها في أفلام ذات أساليب ومعالجات مختلفة.
في الوقت نفسه، أكّدت هذه الأفلام على أن ما يقف حائلاً ضد تطوير تلك المواهب (خصوصاً في الإخراج) هو الباب الأول (والأهم في مراحل ما قبل التصوير) في عملية صنع الأفلام، وهو السيناريو. قليلون جداً يجيدونه وإذا فعلوا يكتفون، حسب شهادات البعض هنا، بالنسخة الأولى التي وضعوها واكتفوا بها.
في هذا النطاق، فإن هناك بضعة مشكلات تتكاتف لتشكل المشكلة الكبيرة؛ ذلك لأن كتابة المخرج (بصرف النظر عن قدرته في التنفيذ وموهبته) للسيناريو نفسه، يضعه في خط واحد مع المرحلة التالية عِوض أن تتم عملية كتابة السيناريو عبر شخص آخر يشترك معه في رصف ذلك المدخل للفيلم. شخص لديه معرفة وخلفية. وحتى لو حدث ذلك للمخرج، فإن الاكتفاء بنسخة واحدة (First Draft) ليس كافياً على الإطلاق للشروع في التنفيذ. مع كل كتابة أخرى قرار جديد ونسخة أفضل وتطوير أحسن للشخصيات التي يريد الفيلم بلورتها.
غرفة غامضة
ما شوهد حتى الآن عكس هذا المنحى تماماً. مخرجا فيلمي «أغنية الغراب» لمحمد السلمان، و«سطّار» لعبد الله العراك، يشتركان في هذه النقطة عملياً. لا علم مؤكد لنا إذا ما اكتفيا بالنسخة الأولى، أو أضافا عليها بعض المشاهد قبل التصوير، لكن النتيجة الماثلة على الشاشة تشير إلى موهبتين جيدتين في الأساس تعتمدان على سيناريوهين أضعف من أن يستطيعا تجسيد هذه الموهبة في الشكل الصحيح.
في «أغنية الغراب» قصّة رجل في مقتبل العمر يعمل موظف استقبال في فندق. تجذبنا أولاً شخصيّته. فالدقائق الأولى للفيلم تقدّمه لنا وهو يرقب والده بخوف وهو يهوي بمطرقة كبيرة على أشرطة كاسيت لتحطيمها، ومن ثَم يواصل سعيه لتحطيم الطاولة نفسها. ننتقل مع «ناصر» (عاصم العواد) إلى مكتب طبيب ينصحه بألا يتأخر في إجراء العملية لاستئصال ورم في رأسه، لكن عاصم يرفض تحذير الطبيب، وبعد ذلك ها هو في عمله وراء مكتب الاستقبال يقف وحيداً في القاعة بأسرها. حين تدخل الفندق فتاة جميلة غامضة (كاتريانا تكاشنكو)، يقف مبهوراً بجمالها. تطلب منه دخول غرفة تحمل الرقم (227). يتبعها ويقفان في الغرفة نفسها. ما زال مبهوراً. ما زالت غامضة وتعطيه رسالة لإيصالها لمن سيشغل الغرفة قريباً.
هو ممثل سابق سيعيش فيها منفرداً وسيزوره صالح بضع مرّات ويستمع بتوجيهاته ومواعظه وأحكامه. الربط بين هذا الوضع وأوضاع أخرى رمزية يتفرّع إلى عدة مشاهد في تركيبة لا تمضي على النحو المفترض بها أن تمضي فيه. فلكي يكسب قلب تلك الجميلة يقتنع عاصم بأن عليه أن يكتب شعراً عاطفياً، لكنه ليس بشاعر ومشواره في هذا الدرب بطيء. صديقه (إبراهيم الخير الله) يحثّه، لكنه لا يستطيع إجباره على الابتكار.
هنا تبرز النقطة التي كان من الممكن تطويرها على نحو أفضل، وهي أن إبراهيم شخص عاجز عن المبادرات وعاجز عن الفعل ويقف في الفجوة الكامنة بين الحقيقة والخيال.
يضع المخرج الأحداث في عام 2002، مما يمنحه حريّة اختيار شخصياته على نحو مقبول. هو فيلم رمزي، لكن رموزه ليست معالجة فنياً، بل شكلياً. هو فيلم طموح جداً يحتوي على حكاية لها امتداداتها الاجتماعية ومعالجة بروح من «الكوميديا السوداء»، لكن تنفيذ المشاهد هو أقرب لصور مسجّلة منها إلى مشاهد مشدودة وحيّة. لا يلبي خيال الكاتب - المخرج - حاجات المعالجة الرمزية والوجدانية التي يطرحها، تبقى عارية في تصاميم المكان وأجواء الحكاية وغير قادرة على الدمج بينها وبين الحكاية. الجامع بالطبع هو الشخصية، لكنها بدورها تحتاج لكساء إضافي يجعلها مهمّة أو ذات قدرة على تجسيد مستوى إضافي من معانٍ ودلالات، بدل تركها مقطوعة المسببات، وخالية من القدرة على إثارة اهتمام فعلي. خسارة؛ لأن المخرج اختار شكلاً جسوراً لمادة كان يمكن لها أن تنجز نقلة واعية لسينما مطلوبة.
يختار المخرج محمد السلمان مشاهده بدقّة محسوبة له، لكن الخروج من تأطيرها صوب معانيها يبدأ وينتهي في اللحظة نفسها. تعلم ما يريد تصويره، ولماذا يصوّره على هذا النحو، لكن الكاميرا قلّما تتحرك لتساهم في تصوير نوع من الحياة أو لإثراء المشهد نفسه بذلك القدر من «الفانتازيا» الذي يقصده المخرج بلا شك. تصميم المشاهد لا غُبار عليه. ينقل الرغبة في التعبير مجازياً عن ذلك الفاصل المعيش بين الواقع وظلالاته الخيالية، لكن المزيد من إتقان الكتابة وأسلوب ولوج هذه المشاهد كان يمكن أن يأتي أكثر دقّة وبوحاً.
لحين تساءلت لو أن المخرج قرر سرد الحكاية في معالجة تقليدية، ألن يكون ذلك أفضل للفيلم؟ الجواب يعتمد على نجاح المعالجة البديلة، لكنها لو نجحت لوصلت الرسائل سريعاً وجيداً. ما هو ماثل، هو اعتقاد الطريقة التي صيغ الفيلم بها، هي الشرط المطلوب لتغيير اللعبة التجارية والارتقاء بها. نعم هذا صحيح لو أن الكتابة من ناحية والتنفيذ من ناحية أخرى، عُنيا أكثر بخلق عالم موازٍ يستطيع المُشاهدون التعامل معه والالتقاء به.
في الحلبة
الفيلم الثاني يختلف في أنه كوميديا مباشرة. أيضاً من كتابة (عبد الله العراك)، ويدور حول موظف في شركة تأمين (إبراهيم الخير الله) على أهبة الزواج، لكنه راضخ لمتطلبات خطيبته التي تتبنى ما تقوله والدتها، منتقدة وضع الموظف وراتبه. هذا الجانب يلتقي وحقيقة أنه غير محبب من قِبل مديري الشركة رغم أمانته وحرصه.
بطل الفيلم في الواقع يهوى المصارعة. قصير وبدين، لكنه لا يعتقد أن هذا عائق. في تجربته التطوعية الأولى يخسر المباراة من اللحظة الأولى، مثيراً ضحك الموجودين وسخريتهم، كما أركان عمله في الشركة، لكن هناك من يعتقد أنه بالإمكان تطويره. يأخذه إلى المخبأ، ويعرّفه على العاملين هنا وعلى المكان، فينتقل الرجل من الحذر إلى الدهشة، ومن ثَم إلى استعداد كامل لأن يدخل الحلبة ويصارع فيها من ينازله. المرّات الأولى كانت وبالاً، لكن القصة تمضي لكي تشير إلى أن استعدادات الرجل حقيقية، وأنه قد يكون أهلاً للبطولة. الفيلم كوميدي فعلاً، لكنه ليس عملاً خفيفاً، فقد يستطرد في المكان والتعبير نفسهما لفترات طويلة، تقضي على اللمعة التي كانت البداية أثارتها. من حين لقاء المصارع المحتمل مع مدرّبه يدخل الفيلم نفق مشاهد طويلة، كان يمكن إشغالها بمفاجآت وخلفيات وأجواء، لكي تستطيع رفع مستوى الماثل على الشاشة.
مواهب حاضرة
على الرغم مما سبق، فهناك شواهد مؤكدة عن موهبتين جاهزتين للانطلاق في المستقبل. مخرجان جريئان عند اختيار وتنفيذ فيلميهما، وقادران على الالتزام بضرورة التميّز عن تلك الحكايات السائدة. مواهب جديرة بالعناية تتبوأ الأفلام السعودية اليوم. هذه المرّة يشخص عاصم العواد ما يؤديه جيداً، ويفوز إبراهيم الخير الله، الذي يظهر في «أغنية الغراب» و«سطّار» أيضاً. الخير الله يملك وجهاً يتجاوب تلقائياً مع ضرورات المشهد. حين نتعرّف عليه لأول مرّة في «أغنية الغراب» يعكس على الفور هيمنته المقصودة فوق شخصية عاصم الضعيفة. هنا، يعكس بمجرد تقديمه في أول مشهد له في مكاتب الشركة، وجهاً حزيناً، تريد أن تشعر معه أكثر وتتعرّف على ما يستطيع إنجازه ضمن هذا الشعور. نقطة أخيرة لا بد أن تطالعنا في الأفلام السعودية منذ «وجدة»، مروراً بما شوهد من أفلام هذه السينما الصاعدة، وهو الخصام بين الأب والابن. في فيلمي هيفاء المنصور «وجدة» و«المرشحة المثالية»، الأب غائب أو مُغيّب، ولو أنه في الفيلم الثاني عطوف ومحبب.