سام منسى
إعلامي لبناني قدم لعدة سنوات برنامجا حواريا سياسيا في قناة الحرة. المدير العام لإذاعة "صوت لبنان" سابقا والمدير التنفيذي السابق لـ"بيت المستقبل"، وكاتب عمود في "الشرق الأوسط". مهتم بجمع ومعالجة البيانات المتعلقة بشؤون الشرق الأوسط، خصوصاً الجوانب السياسية والاجتماعية للتنمية العربية.
TT

ديمقراطية أميركا تصلح نفسها وتستعيد توازنها

حصد الرئيس بايدن نتائج غير متوقعة في الانتخابات النصفية لحزبه رغم توقع المطلعين في واشنطن أن تقضي على الديمقراطيين. ورغم الفشل والتعثر خلال السنتين الأوليين من حكمه وعلى أكثر من صعيد، مع انكماش الاقتصاد وبلوغ التضخم نحو 8 في المائة وارتفاع سعر النفط، وهذا العامل من أشد العوامل تأثيراً على الناخب الأميركي، يضاف إلى ذلك عثرات خطيرة على صعيد السياسة الخارجية بدءاً من الانسحاب المخزي من أفغانستان وغير المبرر في توقيته، إلى الفشل في العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران بحسب ما تعهد به في حملته الانتخابية والتساهل معها بعامة، إلى البرودة تجاه ما يجري في العراق، كذلك الموقف من تايوان في البداية وصولاً إلى البرودة إن لم يكن التوتر في علاقاته مع الحلفاء في الشرق الأوسط وخصوصاً الدول الخليجية، وحتى مع إسرائيل على خلفية مفاوضات فيينا. لكن الصلابة التي أبداها بايدن وإدارته تجاه موسكو في حربها ضد أوكرانيا وإحياءه لروحية التضامن وتمكين التحالف بين ضفتي الأطلسي وتشدده مع الصين وخصوصاً في موضوع تايوان لاحقاً، عدلت جميعها الكفة إيجاباً مقابل القرارات والسياسات المتعثرة.
يعود النجاح الانتخابي إلى تجاهل بايدن نصائح خبراء الاقتصاد بعدم مساعدة العائلات التي اعتبرت أنها متضررة وإصراره عليها، كما أقدم على التحديث الفعلي للبنية التحتية وليس فقط الحديث عنها، وسعى أيضاً إلى تخفيض سعر الدواء وتحديد كلفة الإنسولين لكبار السن وملاحقة الشركات المتهربة من دفع الضرائب على أرباح تقدر بالمليارات، إضافة إلى إلغاء ديون الطلبة لأكثر من 40 مليون أميركي. ورغم التضخم العالمي، ساعدت سياسة الإدارة الأميركيين على مواجهة التكاليف المرتفعة وخلق وظائف ذات رواتب مقبولة، بحيث بقي معدل البطالة عند 3.7 في المائة والاقتصاد ينمو. وجاءت نتيجة هذه السياسات أنه تمكن من وقف «التسونامي» الجمهوري الذي كان متوقعاً.
إلى هذه العوامل، لا بد من الإشارة إلى أن هذه الانتخابات تميزت باختيار الناخب في أحيان كثيرة الشخص أكثر من الحزب، ما أدى إلى خسارة نسبة كبيرة من مرشحي الرئيس السابق دونالد ترمب الذي لم يقدم مصلحة حزبه من خلال دعمه لمرشحين لا يتمتعون بالكفاءة.
ولعبت مسألة الإجهاض التي تشكل مادة تجاذب حادة في المجتمع الأميركي دوراً في نجاح الديمقراطيين، إلى جانب غيرها من القضايا الاجتماعية الخلافية التي عززت الخوف لدى شرائح واسعة من المستقلين والجمهوريين العاديين وبالطبع الديمقراطيين على مستقبل الديمقراطية والحريات المقدسة في بلادهم، بعد مؤشرات كثيرة مقلقة خلال ولاية ترمب بشأن التشكيك في المؤسسات الحكومية وخصوصاً الأمنية منها ونزاهة الانتخابات واللجوء إلى العنف المسلح كما حصل في الهجوم على مبنى الكابيتول.
ويعرف الأميركيون أن الرفاهية الاقتصادية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالديمقراطية وحقوق الفرد والتمسك بالثقة بالمؤسسات، ولعل من الأسباب التي أفرزت النتائج الأخيرة تمسك عدد من رموز الحزب الجمهوري الترمبيين بنغمة أن نتائج الانتخابات الرئاسية سنة 2020 مزورة، وكرروا ذلك عندما أظهرت نتائج انتخابات حاكم ولاية أريزونا فوز كاتي هوبس ضد كاري لايك الجمهورية فرفضت الأخيرة النتيجة والاعتراف بالهزيمة. كل ذلك جعل الناخب الأميركي يخشى وصول أصحاب نظريات التزوير والتشكيك في صدقية الانتخابات التي ابتدعها ترمب إلى مقاعد الحكم والتشريع لا سيما أن العشرات منهم رفضوا التعهد باحترام نتائج الانتخابات النصفية، زارعين مسبقاً عدم الثقة بالنظام الانتخابي الأميركي. وثبت أن الأميركيين قادرون على هزيمة التطرف سواء من اليسار الديمقراطي أم اليمين الجمهوري المتشدد.
يبقى أيضاً أن ترمب أسهم وعن غير قصد بهذه النتائج المخيبة والمقلقة للجمهوريين، ما قد يدفع بعدد منهم إلى محاولة انتزاع القيادة منه معتبرين أنه عقبة أمام إعادة إحياء الحزب بعد أن خسر منذ استيلائه عليه عام 2016 البيت الأبيض ومجلسي الكونغرس والآن مجلس الشيوخ، وذلك رغم المخاطر المتوقعة، إذ من المرجح ألا يتراجع ترمب من دون نزاعات مكلفة. وقد تأكد ذلك مع إعلانه ترشحه للرئاسة مرة أخرى في عام 2024، متجاهلاً نداءات الجمهوريين الذين يحذرون من أن تأثيره المستمر والسلبي على الحزب كان أكبر من هنات بايدن ما أدى إلى النتائج التي جاءت أضعف من المتوقع في انتخابات التجديد النصفي.
إن الحالة التي أظهرتها نتائج فوز حاكم فلوريدا رون دي سانتيس للمرة الثانية بفارق 20 نقطة إضافة إلى عدد لا يستهان به من حكام الولايات الجمهوريين المعتدلين ومن غير الترمبيين، تفيد بأن القيم المحافظة يمكن مزجها مع نهج إنساني في التعليم والهجرة والقضايا الاجتماعية في مقاربة تستقطب شرائح واسعة من المستقلين وتحد من خسارة الناخبين المعتدلين كما تبينه نتائج انتخابات عام 2022 جراء تحقيق هوامش كبيرة بين المستقلين وسكان الضواحي وتضييق الخلاف مع المعتدلين واستغلال نقاط ضعف اليسار المتطرف بدون تخويف المعتدلين في الوسط.
أول الدروس المستقاة من نتائج هذه الانتخابات أن أميركا تصلح نفسها بنفسها فتهاوت الخشية عند محبي جلد الذات وسكت صوت الشماتة لدى المعادين لكل ما هو أميركي بالمطلق. في كل مرة تمر الولايات المتحدة بانعطافات مقلقة مثل الاضطرابات العنصرية والاغتيالات في الستينات إلى حركة مناهضي حرب فيتنام في السبعينات إلى تفجير برجي التجارة في نيويورك سنة 2001 والركود الاقتصادي والانهيار العقاري سنة 2008 وتداعيات التجاذب الداخلي الحاد إبان ولاية ترمب، كلها تم تجاوزها وخصوصاً حادثة الهجوم المسلح على الكابيتول إثر رفض ترمب ومؤيديه نتائج الانتخابات الرئاسية واعتبارها مزورة وتمكن يومها نائب الرئيس مايك بنس وعدد من القادة الجمهوريين من احتواء مخاطرها المرعبة.
الدرس الثاني أن الشأن الداخلي أكثر أهمية للناخب الأميركي من الشؤون الخارجية مهما بلغ شأنها، وفي هذا السياق تحديداً لعب استشعار الخطر على الديمقراطية دوراً مهماً في هزيمة مرشحين مؤيدين لترمب. هذا لا يعني أن المجتمع الأميركي خرج من الإنهاك والانقسام، إنما هو علامة إيجابية باتجاه التخفيف من حدة التجاذب، وربما يسمح بعودة الروح التقليدية إلى الحزب الجمهوري ويعزز حظوظ دي سانتيس المرشح الرئاسي المفضل لدى عدد كبير من الناخبين الجمهوريين والرموز الحزبية الذين ملوا من سيطرة ترمب ومشاحناته الشعبوية المستمرة.
الدرس الثالث هو عدم رهان الخارج على التناقضات الداخلية الأميركية باعتبار أنها قد تخدم مصالحهم، وعدم اعتبار الاختلاف مع رئيس أميركا أو مسؤولين في إدارته في مرحلة معينة أو على مواضيع محددة خلافاً مع أميركا ودورها وقيمها، ما قد يستدعي تداعيات لا تعوض. الأشخاص يرحلون والإدارات تتغير، إنما أميركا وحتى اليوم لا تزال القوة الأكبر والأقدر والأهم رغم كل أخطائها وخطاياها.