د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

مهام نووية جيوسياسية «مميتة»

في الأشهر الأربعة الماضية احتلت تحركات الغواصات النووية الأميركية والروسية حيزاً مهماً من الأحداث الجارية، كلها ذات صلة بالحرب في أوكرانيا وما تمثله من رسائل ردع متبادلة. ثم جاء الحريق الهائل تحت الأمواج حسب وصف صحيفة «الصن» اللندنية في الغواصة النووية البريطانية «إتش إم إس فيكتوريا» من طراز «فانجارد» يوم الاثنين الماضي، التي أجُبر قائدها على وقف المهمة السرية للغاية المكلف بها والعودة إلى قاعدتها في كلايد بإسكوتلندا، لمعالجة الأضرار. وفي التفاصيل، إشارة مباشرة إلى أن المهمة الملغاة هي جزء من عملية الردع التي تقوم بها البحرية البريطانية بصورة دورية شمال المحيط الأطلسي.
أهمية الحدث أنه ذو صلة بقدرات الغواصة النووية؛ حيث تحمل صواريخ باليستية عابرة للقارات وقت وقوع الحادث، قادرة على حمل رؤوس نووية من طراز «Trident 2»، ما يعنى أنَّ المهمة السرية كانت أبعد بكثير من مجرد دورية روتينية للتدريب ورفع الكفاءة التشغيلية، بل كانت في مهمة ذات طبيعة عسكرية نشطة، ما يجعل الأمر بشكل أو بآخر ذا صلة مباشرة بالحرب في أوكرانيا، وتحديداً بالتحركات الخاصة بالغواصات النووية الروسية، التي يجوب بعضها المحيطات، ومنها المحيط الأطلسي والمحيط المتجمد الشمالي، وما بينهما من مساحات مائية هائلة. وهي مهمة رصد ومتابعة من جانب، وقتالية إن تطلب الأمر من جانب آخر.
تأمل الحدث كحريق هائل في غواصة نووية، حتى مع القدرة على احتوائه قبل أن يصل إلى الدوائر الكهربائية الحاكمة لإطلاق الصواريخ الباليستية المحملة برؤوس نووية، أو الأجهزة التي يُتحكم بها في عمل المفاعل النووي الموجود في قلب الغواصة، يثير كثيراً من المخاوف حول التداعيات المحتملة إذا ما أخفق الطاقم في احتواء الأمر بطريقة آمنة. وهي مخاوف تتعلق بحياة طاقم التشغيل من الضباط والجنود، وأخرى بحجم التلوث النووي المحتمل حدوثه في محيط الغواصة، وثالثة إذا ما انفجر أحد الصواريخ برؤوسه النووية الستة في موقع ما سواء في البر أو في البحر. وهي مخاوف تجسد حجم الأخطار التي قد تحدث نظرياً على الأقل، ويجب التحسب لها من قبل صانعي تلك الآليات الجبارة.
حوادث الغواصات النووية مشهودة، منها غواصات سوفياتية وروسية وأخرى أميركية وفرنسية، تكررت أكثر من مرة خلال العقود الستة الماضية، من أشهرها وأكثرها خطورة حادثة الغواصة السوفياتية K 19 في العام 1961، التي كانت تعتبر أسطورة بحرية آنذاك، والتي جسدتها السينما الأميركية في الفيلم الشهير بعنوان «صانعة الأرامل»، وغرق الغواصة النووية الروسية كورسك في بحر بارنتس خلال مناورة بحرية كبرى في أغسطس (آب) 2020. أميركياً، هناك قائمة طويلة من حوادث غرق الغواصات النووية، أبرزها غرق الغواصة «يو إس اس ثريشر» في المحيط الاطلنطي عام 1963، وفي كل هذه الحوادث فقد العشرات من الجنود والضباط.
ولعل أغرب الحوادث القريبة اصطدام الغواصة النووية الأميركية «كونيتيكيت» في أكتوبر (تشرين الأول) 2021 بجسم غريب في بحر الصين الجنوبي، ما أثار مخاوف من تسرب محتمل للوقود النووي. وبعد التحقيقات، تم تسريح طاقمها بالكامل. المثير أن هذا الجسم الغريب لم تتحدد طبيعته وكانت أضراره بسيطة حسب البيانات الرسمية الأميركية. وهي حادثة تشير إلى أن هذه النوعية من الغواصات، رغم أنها مزودة بأجهزة وتقنيات حديثة للبحث والكشف عما هو كائن في قاع البحار والمحيطات، فمن المحتمل أن تتعرَّض للاصطدام بأجسام غريبة، أياً كانت طبيعتها، من صنع الإنسان أو من صنع الطبيعة، ما يسبب لها أضراراً قد تقضي عليها، بكل تبعات ذلك البشرية والمادية.
حوادث الغواصات النووية تحديداً تذكرنا بالمخاطر الهائلة لمثل هذه النوعية من الآليات البحرية، فكلها حدثت في أوان السلام بعيداً عن المواجهات بين القوى المالكة للأسلحة النووية، وما ترتب عن أغلبها من آثار لم تتجاوز حدود الغواصة وطاقمها ومساحة مائية محدودة. والخطر الأكبر أن تتواجه غواصتان أو أكثر في سياق حرب، وأقل ما يمكن تصوره هو دمار وخراب واسع المدى، ولا سيما أن ما تحمله الغواصات النووية الحديثة، للدول الكبرى من الصواريخ الباليستية والرؤوس النووية، كفيل بتدمير الكرة الأرضية بأسرها، براً وبحراً. وهو ما يجسده وصف يوم القيامة لبعض هذه الطرازات، ولا سيما الحديثة، كالغواصة الروسية النووية «بيلغورود كاي - 329» التي تسلمتها البحرية الروسية في يوليو (تموز) الماضي، والتي أثير حولها كثير من الغموض حين اختفت عن أنظار المراقبة الأميركية والبريطانية. كما أنَّ لدى الناتو مشروعاً يجرى تنفيذه لبناء غواصة نووية تلقب باسم «قاتلة المدن».
تطوير هذه النوعيات من الغواصات النووية ورفع تجهيزاتها الصاروخية والقدرة على الاختفاء شبه التام، يحدث في إطار ما يعتبره كل طرف أداة للردع الاستراتيجي، ومنع الطرف الآخر من التفكير في ضربة نووية، ولكن الأمر ليس بمثل هذه الرشادة والنضج العقلي المؤكد، ففي حالات الاندفاع نحو تحقيق مكاسب يعتبرها طرف ما غير قابلة للتنازل، وتستحق أن يُستخدم في سبيلها أقوى الأسلحة المتاحة، قد يحدث خطأ الحسابات المميت بلا رجعة.
بعض اللا رشادة في اتخاذ القرار وضح في الصفقة الأميركية الأسترالية البريطانية، المعروفة باسم «أوكوس»، أبريل (نيسان) 2021، والتي بموجبها سيتم تزويد أستراليا بعدد من الغواصات النووية الأميركية الصنع، كما ستقوم بريطانيا بنشر عدد من الغواصات النووية التابعة لها في قواعد بحرية أسترالية، وسيتم تزويد أستراليا بتقنيات صناعة الغواصات النووية. الصفقة جزء من التحالفات التي تعمل عليها واشنطن لمحاصرة الصين في المحيط الهادي، وهي في جوهرها نشر متعمد للأسلحة النووية، وتناقض تام لكل السياسات التي تعتبرها الولايات المتحدة قواعد أساسية للنظام الدولي المناهض لانتشار الأسلحة النووية واجبة الالتزام على كل الدول. ولا يقف الأمر عند حد ازدواج المعايير، بل إلى ما تثيره تلك السياسات الأميركية من ردود أفعال لدى القوى التي تُعتبر مُستهدفة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، ولا سيما الصين وكوريا الشمالية، والأخيرة تحديداً لا تألو جهداً في رفع قدراتها الصاروخية الباليستية القادرة على حمل رؤوس نووية، ولا يُعرف كم تملك منها بالفعل، فضلاً على كونها صاحبة أكبر أسطول من الغواصات في العالم؛ حيث تملك 72 غواصة تقليدية، في حين تتوفر مؤشرات عن إمكانية نجاحها في امتلاك واحدة محلية الصنع، كما نجحت مؤخراً في إطلاق صاروخ باليستي من إحدى الغواصات، وتبدو عازمة على إجراء تجربة نووية، رغم كل التحذيرات والتهديدات التي لا تتوقف عن إطلاقها واشنطن وسول وطوكيو.