د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

تكريم فأر!

أقيم حفل رسمي لتكريم فأر أفريقي، تم تدريبه على تحري وجود ألغام أرضية في كمبوديا؛ حيث تمكن «الفأر الشجاع» من «اكتشاف 39 لغماً أرضياً و28 جسماً متفجراً، وتمشيط وتنظيف أراضٍ بمساحة 141 ألف متر مربع، أي ما يعادل مساحة 20 ملعب كرة قدم» التي سيُجرى عليها مونديال كأس العالم في قطر الشهر الجاري.
جمعية «أبوبو» APOPO ضمت ذلك الفأر المتفاني إلى قائمة الحيوانات التي تكرمها منذ 77 عاماً، وتتقدمها الكلاب والخيول والحمائم والقطط، ضمن سجل شرف حافل بمواقف البهائم والطيور الشجاعة. وأنا أقرأ هذا الخبر الذي نشرته «إندبندنت عربية» جلست أتأمل ذلك الفأر الذي قُلد ميدالية ذهبية لبسالته في الكشف عن الألغام، وقارنته بمشاعر الموظف المتفاني والمغمور في بيئات العمل الذي لم يجد من ينصفه. كيف يكون الإنسان وفياً للحيوانات، وينسى بني جلدته؟! لماذا ندفن، بحجج واهية، ثلاثة موظفين في ركام عمل لا يقوى على إنجازه سوى 10 موظفين؟!
مشكلة بعض التكريم البشري أنه غير منصف لأنه يخضع لأهواء شخصية أو لعدسات كاميرات. فإذا ما أحب مسؤول أحداً أغدق عليه من نفائس خزائنه. فتصبح تجاوزاته مجرد هفوات، وخطيئاته زلات غير مقصودة. ولو اجتمع النقاد على صعيد واحد لم يفلحوا في إقناع المنحاز بعيوب جوقة المطبلين من حوله.
إن التكريم جزء أصيل في أدبيات الإدارة والموارد البشرية. فإذا ما شعر المرء بأن المستحق لا ينال حقه الكافي من التقدير والتكريم والدعم، فإنه سيتراجع أو ينعزل فيحرم نفسه والمؤسسة من قدرات كان يمكن أن تتألق وتُخرج لنا أجيالاً منتجين. غير أننا في زمن أصبحنا فيه بحاجة ماسة إلى إعادة النظر بالتكريم، ففكرة «موظف الشهر» التي تدور على كل شخص في المؤسسة لتعلق صورته في جدارية صارت أقرب للترضيات منها لتسليط الضوء على المتفانين. فالمنطق يقول إن من المخلصين من يستحق أن يتصدر هذه اللوحة لشهور عديدة بلا منازع. والناس في تفانيها مراتب، فذلك الفأر الشجاع «ماغاوا» يمكنه تحري حقل بمساحة كرة مضرب (التنس) وتمشيطه في غضون نصف ساعة، بينما قد لا يجاري نشاطه آخرون.
ولكي نضمن عدالة التكريم، لا بد أن نحسن طريقة التقييم الموضوعية لتتقلص المزاجية إلى الصفر. فلحسن الحظ صار بمقدورنا أن نحسب عبر التكنولوجيا من أنجز ذلك العدد من المعاملات، ومن صار ينعم بأقل عدد من الشكاوى أو بأكثر التقييمات المرتفعة من قبل الزبائن والمراجعين. بهذه الأرقام مثلاً نستطيع أن نحدد من يستحق التكريم.
والتكريم قد يكون كلمة طيبة وليست ميداليات ونياشين. ففي دراسة يابانية شهيرة تبين أنه حينما فاز المشاركون بلعبة الميسر (القمار)، التي أقيمت خصيصاً لهذه الدراسة، كانت المناطق التي تتأثر في دماغهم لحظة تحقيق الربح المالي، هي المناطق نفسها التي تتأثر حينما يتناهى إلى أسماع الفرد كلمات رقيقة من الإطراء، وهو ما اعتبر أن الإطراء يحقق الشعور اللذيذ نفسه الذي يولده الكسب المادي. فالكلمة الطيبة تكريم، والاعتذار على الملأ تكريم، والترقيات المستحقة تكريم. ولكن أقبح صور التكريم أن تولي على المتفانين شرار الناس.