ميرزا الخويلدي
كاتب و صحفي سعودي
TT

في إيران: نساءٌ ضد الكسر!

لطالما كانت المرأة الإيرانية تمثل قوة التغيير الناعمة... ولكن الأكثر تنظيماً، والأشد صبراً، هي أجنحة الفراشة التي تصنع إعصاراً بطيئاً، ولكنه قادر على أن يعصف بالاستبداد، وأمام موجات القمع أثبتت المرأة مجدداً أن «العين تستطيع مقاومة المخرز».
ثارت النساء في إيران ضد ما تعتبره قمعاً دينياً، في هذا الوقت مستغلة اللحظة التاريخية لتعزيز الروح الوطنية، فالضحية هذه المرأة شابّة من القومية الكردية، وهي فئة تمثل أقلية معزولة في البلاد، وهي أيضاً فتاة (سنيّة) وسط أكثرية (شيعية)، فكانت مهسا أميني شرارة كاملة الطاقة لإشعال فتيل الاحتجاج.
الحجاب كان عنوان الحرية للمرأة في إيران، ثارت ضد نزعه بالقوة، وثارت ضد فرضه بالقوة!... لكن المرأة كانت حاضرة دوماً في العنوان الوطني... أوائل القرن العشرين، شاركت المرأة في الثورة الدستورية (1905 - 1911م)، التي دعت لتقييد سلطات حكام السلالة القاجارية عبر الدستور والمجلس النيابي المنتخب، ونزع القداسة الدينية عن السلطة السياسية، واعتبار الحكم «شأناً سياسياً وليس شأناً شرعياً». نتائج هذه الثورة كانت حاسمة؛ فالمرأة برزت كقوة صانعة للتغيير، ومنذ ذلك الوقت بدأت الصورة النمطية للمرأة المستكينة تحت الهيمنة الذكورية تتلاشى.
ورغم أن قوة التغيير الفكرية جاءت من النجف في العراق!. هناك كان السجال على أشده بين دعاة الحكم الدستوري «المشروطة»، ودعاة «المستبدة» الذين يجنحون لتفويض الشاه القاجاري سلطة روحية مقدسة. رغم ذلك، فإن رياحاً أخرى للتغيير جاءت أيضاً من تركيا، حيث أقام مصطفى كمال أتاتورك نظاماً علمانياً يتبنى القيّم الغربية، وقد أغرت هذه الحركة، الشاه، فأصدر رضا شاه، مرسوماً في الثامن من يناير (كانون الثاني) 1936، بحظر ارتداء الحجاب، ضمن مساعيه لتحديث المجتمع على النمط الذي تسير عليه تركيا. ولعبت النساء دوراً حاسماً في إجبار السلطة على إلغاء هذا الفرض... حتى أصدر ابن البهلوي الثاني الشاه محمد رضا قراراً بإلغاء مرسوم منع الحجاب في العام 1944.
لطالما اعتبر الحجاب قبل الثورة رمزاً للمقاومة السياسية، ففي العام 1977 كانت النساء غير المحجبات يرتدين «الشادور» تعبيراً عن انتمائهن للثورة التي يقودها رجال الدين ضد الشاه. خاصة أن شعارات الثورة كانت تنادي بالمساواة. لكنّ بعد انتصار الثورة، أصدر الخميني في الثامن من مارس (آذار) 1979 أمراً بمنع دخول النساء غير المحجبات للدوائر الحكومية، وكان ذلك مما عُرف بمراسيم «أسلمة المجتمع»، ولاقى هذا الأمر رفضاً من شرائح واسعة من رجال الدين أبرزهم آية الله محمود طالقاني (1911 – 1979)، وبالمناسبة هو نفسه محقق كتاب النائيني «تنبيه الأمة وتنزيه الملّة»، وكان يتبنى نظريته في الدستورية واعتبار السلطة شأناً بشرياً تستمد مشروعتها من الناس، مع الحدّ من تدخل رجال الدين في الحكم.
ومرة أخرى خرجت النساء الإيرانيات إلى الشارع في ظل الجمهورية الإسلامية وتحت نظام ولي الفقيه للتنديد بهذا القرار، ليس ازدراءً للدين أو للحجاب، وإنما دفاعاً عن الحرية التي انتهكها مرسوم المرشد الأعلى. ونجحت المرأة في إجبار الولي الفقيه على سحب قراره، رغم أن القوى الثورية المتحمسة نزلت هي الأخرى للشارع تلوّح بقمع الفتيات، بل وكان هناك من يهددهن بسكب الأسيد على وجوههن إذا لم يخضعن لأحكام المرشد الأعلى. هذا كان الاحتكاك الأول الذي اختبرت فيه المرأة سطوة السلطة الدينية، وسريعاً وجدت أنها لا تختلف كثيراً عمن سبق. هناك كان رضا شاه مستعداً أن يطلق النار على معتصمين في مسجد «كوهرشاد» في مشهد، ويقتل الآلاف لفرض مشروعه بمنع الحجاب... وهنا كان الثوار تحت ظلّ الإسلام يحملون قناني الزيت المغلي لتهديد النساء بحرق وجوههن...
ما يحدث في إيران اليوم هو امتداد لشعور عميق بالرغبة في الحرية والانعتاق من القهر، في دولة قومية الدين والمذهب مجرد عناوين لصياغة الهوية... وليس بالضرورة نزعة تغريب أو تمرد على الدين... فالمرأة تقف هناك في وجه السلطة الدينية؛ وليس في وجه الدين! ومن الظلم تصنيف حركة الاحتجاج الأخيرة بأنها مشروع يستهدف القيم الدينية والأخلاقية، فضلاً عن التهم المعلبة التي تلصقها السلطة بكل من يخالفها عموماً باعتباره خائناً وعميلاً! أما من يريد أن يعرف مآلات هذه الحركة... فليقرأ التاريخ الإيراني: هل سجل أحدٌ انتصاراً حاسماً على المرأة...؟!