جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

الأمل في برلين 3

ضاقت ليبيا بخرائطها، وأصيبت بانسداد حاد في الشرايين السياسية، فما إن يلوح الأمل بانفراجة قريبة، سرعان ما يمتلئ الأفق بالظلام، لم يعد هناك تقدير سياسي يقول إن ليبيا ستستعيد عافيتها في القريب العاجل.
الأطراف جميعها اتفقت على ألا تتفق، مساحات التقارب تضيق يوماً بعد آخر، سيناريوهات الانفراجة دائمة الارتطام بصخور الأنانية السياسية، أطراف المعادلة احترفوا السباق في ماراثون غير محدد النهاية، تبادلوا اللكمات على حلبة الصراع، حول المصالح الضيقة، والخاصة. الشعب الليبي يواصل سداد فواتير التجاذبات الداخلية والخارجية.
بعدسة مكبرة، تتضح أمامنا الصورة الكاملة لحجم المخاطر والتحديات التي تعيشها الدولة الليبية، طوال عقد مضى، لم تتجه بوصلة الاستقرار إلى طريق الحل الدائم والمستدام، فكل المبادرات والأفكار والمقترحات المحلية والإقليمية والدولية، ذهبت أدراج الرياح، وعادت الأعاصير والعواصف تضرب جذور الأمل التي لاحت، من قبل، أثناء الاتفاق على إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وكان مقرراً لها أن تجرى في 24 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
العودة باتت إجبارية إلى المربع الأول، عاد الحديث يتجدد حول عقد مؤتمر ليبي وإقليمي ودولي، باسم (برلين 3)، هنا وقفة واجبة للسؤال المركزي: لماذا تذهب ليبيا مرة ثالثة إلى ألمانيا؟ ولماذا لم تنجح مؤتمرات (برلين 1)، و(برلين 2)، و«باريس»، و«باليرمو»؟ هل هذه المؤتمرات لم تنجح في تقدير الموقف الليبي بشكل دقيق، أم أن الليبيين أنفسهم يفتقدون للإرادة السياسية للانتقال من ليبيا «الساحة»، إلى ليبيا «الدولة»؟
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، دعنا نتوقف قليلاً أمام عدة ملاحظات، لنقرأ واقع الأمور التي آلت إليها بلاد عمر المختار؛ أولى هذه الملاحظات تلك المتعلقة بتراجع ونكوص الأطراف الليبية عن الحلول والأفكار والاتفاقات، التي توصلوا إليها خلال الفترات الماضية، فعقب كل مبادرة أو جولة من المفاوضات، تباغتنا بعض أطراف المعادلة بقلب الطاولة، والسعي إلى بداية اللعبة من جديد.
فعلى سبيل المثال، نجد أن ما تم الاتفاق عليه خلال اللجنة الدستورية، ولجنة 5 5، واللجنة الاقتصادية، قد تبدد وتهاوى نتيجة عدم التطبيق الكامل والأمين، لما تم التوصل إليه، وتداخل الأوراق في دائرة مفرغة، تنقلنا من مرحلة متقدمة إلى مرحلة متأخرة.
الملاحظة الثانية تتمثل في التجدد الدائم للصراع بين حكومتين متنافستين، ومؤسسات متصارعة، قادت إلى مزيد من التأزيم والقلاقل والارتباك الذي انعكس على المواطن الليبي في مختلف ربوع البلاد، فبرغم الموارد الضخمة التي تتمتع بها ليبيا، فإن الصراعات والتجاذبات السياسية، فرضت كل مقومات الفشل في الوصول إلى مشهد آمن ومستقر للدولة الليبية.
أما الملاحظة الثالثة فقد عشنا ملامحها خلال الفترات الماضية، من خلال مشاهد الانفلات السياسي والأمني، والاشتباكات بين التنظيمات الإرهابية، والمرتزقة، والقوات الأجنبية، سيما في منطقة الغرب الليبي، الأمر الذي زاد من مساحات التشاؤم في الوصول إلى حلول جذرية لإيقاف نزيف الانهيار المتلاحق في بنية المؤسسات الليبية.
والملاحظة الرابعة دامغة في معناها ورسائلها وخطورتها؛ إذ إنها تتعلق بجزء شاسع من الوطن الليبي، وهو جنوب ليبيا الذي بات ساحة رخوة لكل الجماعات الإرهابية، وتجار التهريب، والبشر، والسلاح، والهجرة غير المشروعة، الأمر الذي جعل من الجنوب الليبي عنواناً للفوضى ومنصة لإطلاق المخاطر، التي تزيد من مقومات تفكيك الدولة، وعدم العودة مرة أخرى إلى وحدة وسلامة الأراضي الليبية، لدرجة تدفعنا إلى دق أجراس الخطر، بأن التهديد هنا لا يقتصر فقط على ليبيا، بل صار يمثل تهديداً كبيراً على دول الجوار، خصوصاً أن الجنوب الليبي صار مخزناً حيوياً للجماعات والتنظيمات الإرهابية، وهذا ما أكده تقرير صادر عن الأمم المتحدة في أبريل (نيسان) الماضي.
الملاحظة الخامسة تتجسد في عدم طرح مبادرات إقليمية، أو دولية لحل الأزمة الليبية، منذ انتهاء «برلين 2» في 23 يونيو (حزيران) 2021، نظراً لانشغال العالم بالأزمات الجديدة، مثل تداعيات جائحة كورونا، والحرب الروسية - الأوكرانية، ومشاكل سلاسل الإمداد والطاقة، والخوف من التباطؤ الاقتصادي، والتضخم وارتفاع الأسعار، الذي بات يهدد كل دول العالم بلا استثناء، كل هذه الأمور أسهمت في صرف الاهتمام بعيداً عن البحث في حلول الأزمة الليبية.
كل هذه الملاحظات أدت إلى الذهاب إلى برلين للمرة الثالثة، فخلال الأيام الماضية، أطل علينا المقترح الألماني بدعوة كل الأطراف الليبية والإقليمية والدولية، على طاولة «برلين 3»، لوضع خريطة طريق جديدة، تجد توافقا ليبياً-ليبياً، مدعوماً من دول الجوار الإقليمي والمجتمع الدولي، في ظل مجموعة جديدة من المحفزات تبعث الأمل من جديد في شرايين الحياة السياسية الليبية، وتسهم في إنقاذ الدولة من الوصول إلى حافة الدولة الفاشلة، وقطع الطريق أمام المسار الظلامي الذي يحاول اختطاف الدولة الليبية وتفريغها من المفهوم الوطني.
إذن نحن على موعد مع «برلين 3»، لوضع القضية الليبية على المسار الصحيح، وتحويل الأزمة إلى فرصة، والاستجابة إلى التحدي الذي يقيم في ليبيا، منذ ما يسمى بـ«الربيع العربي»، ربما يكون هذا الموعد حاملاً لمساحة التفاؤل والأمل، بشكل أفضل من المواعيد السابقة في برلين الأولى والثانية.
ولذلك أرى أن تفويت هذه الفرصة، وهذه الظروف الإقليمية والدولية، قد يدخل بليبيا في دائرة القضية المنسية.