ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

ثرفانتس

محاولتي الأولى لقراءة «دون كيخوتي دي لا مانتشا» باءت بالفشل. كنت لا أزال على مقاعد المدرسة، وكانت تربكني الجمل الطويلة، والعبارات القديمة التي كنت أضطر للبحث عن معانيها في المعاجم، وانتهى بي الأمر إلى العزوف عن قراءته. لكن بعد سنوات، عندما كنت في الجامعة، وقعت على كتاب صغير للمؤلف الإسباني آثورين، دفعني إلى محاولة قراءة «الكيخوتي» مجدداً، وأفلحت في قراءته من البداية إلى النهاية، متمتعاً بكل جملة وكل صفحة، بقصة تلك الشخصيتين النقيضتين، الفارس المثالي الممشوق القامة، الذي يكرس حياته لتغيير الواقع كي يتشابه مع الكتب والأحلام، ومرافقه البراغماتي صاحب البطن السخي، الذي يحاول إبقاء سيده في دائرة الواقع المرير كي لا يتيه في ضباب الخيال والأحلام.
كل ما في هذا الكتاب يثير الانبهار، ويجسد أفضل من أي كتاب آخر ثراء اللغة الإسبانية وخصوبتها اللامتناهية للتعبير بكل التفاصيل الدقيقة والصيغ المختلفة عن الواقع البشري، والخيال الذي يدفع إلى تغيير هذا الواقع وارتقائه؛ أو بعبارات أخرى، كيف أن الأدب يحمينا من الإحباط، والتفاهة والفشل. إن العالم الضيق والريفي الذي تدور فيه مغامرات الكيخوتي وسانتشو، والوقائع الطريفة والغريبة التي تصادفهما، وتتشابك فيها الجرأة بالفكاهة والعبث، منحلة في مياه الرفق والإنسانية، لتبدي لنا كيف أن الخيال يحول الملل إلى مغامرة، والمألوف إلى حدث غير مسبوق تتمازج فيه العناصر المكونة للحياة، من روائع وبؤس وأحزان ومعجزات.
جاء في المراجعات والتعليقات على كتاب سانتياغو مونيوث ماتشادو الذي صدر حديثاً، أنه سيرة جديدة لثرفانتيس. لكني لست من هذا الرأي، فهو يتضمن تحليلات لأهم السير التي وضعت عن ثرفانتيس، بما لها وعليها، كما أنه، على سبيل المثال، أشد قسوة في حكمه على آميريكو كاسترو في مؤلفه «فكر ثرفانتيس»، بالمقارنة مع الخبراء الذين، حسب هذا الكتاب، تجرأوا على انتقاده.
ولو أن جائحة «كوفيد» لم تكن حائلاً، لكان السؤال الأول الذي طرحته على مدير مجمع اللغة الإسبانية، في الحوار الذي كان سيدور بيننا، هو التالي: هل هذا ما خططت له منذ البداية؟ أن تقرأ مئات، وربما آلاف الكتب، لتتبين بوضوح كيف وأين كانت ولادة الكيخوتي؟ لأن أكثر ما يميز كتاب مونيوث ماتشادو عن ثرفانتيس، هو أنه يبدو ثمرة مخطط طويل من التقصي والمطالعة، وعملاً توثيقياً لا نهاية له، من أجل تحديد المجتمع والطريقة التي نشأ فيها هذا الكتاب الذي سرعان ما أدهش أوروبا. ولا أعتقد أن ثمة عملاً مماثلاً يمكن أن يقارن بهذا التحليل الذي يشمل كل مظاهر المجتمع الإسباني وتطوراته، ليبين لنا العالم الذي شهد فيه الكيخوتي النور والأهداف التي وضع لأجلها.
ولست أبالغ في القول، إذ إن القارئ بوسعه أن يتحقق من ذلك في هذا الكتاب الذي يقع فيما يزيد عن ألف صفحة، ويتضمن أكثر من مائتي حاشية، تستعرض النظام القانوني الذي كان سائداً في إسبانيا عندما كان ثرفانتيس منكباً على كتابة الكيخوتي، والأعياد الشعبية، وضروب السحر والشعوذة، والحياة الثقافية بكل مظاهرها، فضلاً عن مكائد محاكم التفتيش وجرائمها، وسير المثقفين، من رسامين، وممثلين وفنانين، والحياة العسكرية، في ظل النظام الملكي. كل ذلك يعرضه الكتاب بأدق التفاصيل، ويسرده بلغة سهلة، واضحة وسلسة، كما لو أن مونيوث ماتشادو يهمس في آذان القراء.
ولعل من أبرز ما في الكتاب، تلك الصفحات المخصصة للساحرات. فهي تذهب أبعد بكثير مما ذهب إليه بيو باروخا في مؤلفه «الساحرات وعالمهن»، وتغوص بتبحر في دنيا السحر والشعوذة بظرف وضراوة. ومن الأمثلة على ذلك، أحد قضاة محكمة التفتيش، المتيقن من أن الساحرة الماثلة أمامه مجنونة، يقارعها وهي تؤكد له أنها «ضاجعت إبليس»، وأنها ستعيد الكرة بعد إحراقها. ولا تجد محكمة التفتيش مفراً في النهاية من الحكم بإحراقها، بعد أن يتعذر إقناعها بأن ما تقوله ضرب صرف من الخيال.
لكن الميدان الثقافي والأدبي هو حيث تلمع أجمل ومضات مونيوث ماتشادو في مؤلفه. والحقيقة أن ثرفانتيس عانى الأمرين ليعثر على من يرعى كتابه؛ فالذين اختارهم تمنعوا، ورفض التجاوب معه الشعراء والفنانون الذين طلب إليهم قصائد أو نصوصاً تدعم روايته.
وهنا لا بد من طرح السؤال الأهم. يبدو أن ثرفانتيس كان رجلاً بسيطاً وتعيساً منذ ريعانه، ولا نعرف الكثير عن طفولته. ويقال، على عهدة الرواة، إنه عند بلوغه، اضطر بسبب من جريمة نسبت إليه، للهرب من إسبانيا واللجوء إلى إيطاليا حيث ظهر في حاشية أحد الأساقفة. وهو كان يفاخر دائماً بذلك الطلق الناري الذي تسبب في بتر يده. ثم أمضى خمس سنوات في الجزائر بعد أن خطفته مجموعة من البربر، وتكبد عذاباً كبيراً، خصوصاً بعد فشل محاولاته للهرب، قبل أن يدفع بعض الرهبان فديته وينقذونه. في إسبانيا، سعى للذهاب إلى أميركا، لكنه اصطدم بتجاهل السلطات لطلبه، أي بمعنى آخر كان متبرماً ومتألماً لما كان يحصل له طوال حياته. لكن شهامة ثرفانتيس ومروءته لم تكونا موضع شك أبداً، فهو كان صادق الاهتمام بشؤون أبناء جلدته، وشديد الحرص على تحسين ظروف عيشهم، ومثالياً طيب السريرة. كيف نفسر إذن هذا التناقض؟
ثم يأتي السؤال الأخير لسانتياغو مونيوث ماتشادو، الذي يؤكد صراحة في كتابه أنه على يقين من أن ثرفانتيس كتب الكيخوتي بهدف «القضاء على روايات الفرسان». هل هو متيقن فعلاً من هذا القول؟ لأن ثرفانتيس كان قد قرأ من روايات الفرسان ما يجعل من المستحيل إنكار شغفه بها. وفي الكيخوتي ما لا يحصى من الشواهد على ذلك. وهو كان مطلعاً على رواية «أماديس دي غاولا»، وعلى «تيرانت لو بلان»، التي كان ثرفانتيس يقول عنها إنها «أفضل كتاب في العالم». أليس في كل ذلك بعض النوستالجيا؟ أو في الأقل، توق إلى عالم يحكمه النظام والسلوك الحسن، وأن ينال البشر عقاباً على عنفهم، وأن تسود الاستقامة وفقاً للضوابط الأخلاقية والقواعد المرعية. ولعل في ذلك ما يعيد الإنسان إلى إنسانيته، ويكبح جنوحه نحو الإفراط، بدءاً بميله إلى الحرب.
عندما قرأت الكيخوتي للمرة الأولى، كنت قد طالعت العديد من روايات الفرسان التي تتحدث عن مساعي أصحاب المروءة والأخلاق الرفيعة لتصويب الشطط في ذلك العصر، وتحويل العالم المضطرب إلى واحة من الهدوء والانسجام. ألم يكن من المحتمل أن ثرفانتيس كان هو أيضاً يسعى إلى ذلك بعد كل ما عاناه في حياته؟ أن يتولد من لمعان السيوف وضراوة الوغى عالم من السلام والنظام، والسلوك المستقيم، وفقاً لخطة تهدف إلى وقف سفك الدماء البريئة. ألم يكن الهدف من الكيخوتي، ولو من باب الاستعارة الأدبية، وضع حد لكل ذلك بواسطة بهلوانيات مجنون كان يحلم بالفرسان القدامى؟