يستغرب المرء بشدة قيام الولايات المتحدة بشن حملة شديدة «مكارثية» بتوجيه اتهامات لـ«أوبك بلس»، وتحديداً للمملكة العربية السعودية، بعد قرار «أوبك» الأخير بتخفيض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل في اليوم، ابتداء من شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، بتوصيفها تلك القرارات أنها ذات طابع سياسي، اتخذ بالتنسيق بين الرياض وموسكو!
هل هذه الحملة تذكر بزمن الحرب الباردة وصراع القطبين بحقبة سيطرة المكارثية في خمسينات القرن الماضي، أم أن هذه المقاربة تبدو مبالغة في التشبيه؟ أليس من المستغرب والمفارقة في هذا الأمر أنها لا تقتصر على مواقف وحملة بعض أعضاء الكونغرس الأميركي ضد أعضاء «أوبك بلس»، بل إن الرئيس الأميركي جو بايدن شارك بنفسه في هذه الحملة ضد تلك القرارات، وهدد بإعادة تقييم العلاقات مع المملكة العربية السعودية بعد رفض طلبات إدارته بتأجيل خفض الإنتاج شهراً واحداً؟!
قبل تناول وإجراء قراءة موضوعية في مواقف الإدارة الأميركية إزاء قرارات «أوبك بلس» تخفيض الإنتاج، من الضروري بمكان سرد بعض الملامح التاريخية للحظر النفطي الذي أقدمت عليه الدول العربية في أكتوبر (تشرين الأول) 1974.
مثلما تُتهم الآن المملكة العربية السعودية باستخدام البترول كسلاح سياسي، اتهمت منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول (أوابك) بأنها هي التي اتخذت قرارات الحظر النفطي في أكتوبر 1974. وهذا غير صحيح بالمطلق كما بينا ذلك في أول دراسة خصصت في بحث هذا الموضوع في رسالة دكتوراه الدولة حول منظمة «أوابك» في جامعة السوربون عام 1977. فقد حرصت السعودية وهي صاحبة فكرة تأسيس منظمة «أوابك» العربية على إبعاد النفط من محاولات استخدامه كسلاح سياسي، وذلك حين أعلن الراحل الشيخ أحمد زكي يماني وزير النفط السعودي السابق تأسيس المنظمة من بيروت في يناير (كانون الثاني) 1968، أي بعد بضعة أشهر من مؤتمر الخرطوم الذي انعقد على إثر انتكاسة يونيو (حزيران) 1967 التي ارتفعت فيها أصوات عربية مطالبة بفرض حظر نفطي على الدول الداعمة للعدوان الإسرائيلي.
من هنا وبسبب رغبة الدول العربية النفطية في عدم تسييس النفط اتخذت قرارات الحظر في 17 أكتوبر عام 1974 من قبل وزراء النفط خارج إطار هيئات منظمة «أوابك».
في مواجهة هذه المواقف، تبنت الولايات المتحدة مبادرتين؛ الأولى ضد الدول المنتجة للنفط في منظمة «أوابك» وضد الدول المنتجة للنفط. فقد قرر وزير الخارجية هنري كيسنجر دعوة الدول المستهلكة بتشكيل تجمع مضاد للدول المنتجة، بإطلاقه هو وليس وزير الطاقة الأميركي إمعاناً في توجيه رسالة سياسية بفكرة تأسيس «وكالة الطاقة الدولية» في نفس العام 1974 بتخزين احتياطي استراتيجي من قبل الدول المستهلكة يغطي حجم استهلاكها 90 يوماً، بدلاً من 30 يوماً، ما يعني تصعيد المواجهة ضد الدول المنتجة.
وفي اتجاه الدول العربية النفطية، قررت الولايات المتحدة رفع مستوى المخزون الاستراتيجي لديها إلى ما يساوي استيراد عام كامل، أي نحو مليار برميل من النفط، إضافة إلى ذلك واكبت هذه الإجراءات بتهديدها الدول العربية باستخدام سلاح الغذاء ضدها. ويظهر هذا بوضوح باللجوء إلى استخدام سلاحي النفط والغذاء في الماضي، كما هو في الحاضر كأدوات ضغط سياسية.
السؤال المطروح هنا حول مدى مصداقية وموضوعية حملة الإدارة الأميركية ضد قرار «أوبك بلس» في تخفيض الإنتاج وتحميل السعودية المسؤولية؟ يمكن الرد على هذا التساؤل في موقفين اتخذتهما السعودية ودول عربية أخرى في التصويت، وليس في الامتناع عن التصويت مثل مرات سابقة حين عرض موضوع مشروع قرار مؤخراً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حول ما اعتبره الغرب والأمين العام للأمم المتحدة نفسه بأنها «استفتاءات صورية غير قانونية» أجرتها روسيا وأتبعتها بضم أراضٍ من أوكرانيا خلافاً للمبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة.
والحدث الثاني إعلان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في اتصال هاتفي، يوم السبت، غرة أكتوبر، مع ولي العهد السعودي رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، أنه وجّه الشكر له على دعمه وحدة الأراضي الأوكرانية خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. كما أعرب عن شكره على قرار القيادة السعودية بتقديم حزمة مساعدات إنسانية إضافية لأوكرانيا بمبلغ 400 مليون دولار، مشيراً إلى أن الشعب الأوكراني لن ينسى ذلك، ما يثبت صداقة السعودية لأوكرانيا (وفق ما جاء في هذه الصحيفة). هذا المقطع يظهر بوضوح أن الأزمة المثارة هي محصورة بين إدارة الرئيس بايدن والحكومة السعودية، ولا تتعلق المسألة بغير ذلك. فالولايات المتحدة وروسيا والسعودية من كبار الدول المنتجة للطاقة في العالم. والقول إن تخفيض الإنتاج الأخير سيؤثر على الأسعار في الداخل الأميركي، ما ستكون له تداعيات على انتخابات الكونغرس في مطلع نوفمبر المقبل... هذه الحجة بإمكان الإدارة الأميركية معالجتها بتقليص صادرات النفط الخام، ما يمكنها من تزويد السوق الداخلية بإمدادات أكثر وتقليص أسعار البنزين والديزل. تلك الادعاءات تثير الدهشة في الربط بين تخفيض إنتاج «أوبك» وانعكاساته المحتملة على الناخب الأميركي، وكأنها بذلك تدعو السعودية للتدخل في الشأن الداخلي في مسار الانتخابات الأميركية المقبلة، وهو ما يتناقض مع مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. الادعاء أيضاً بأن تخفيض الإنتاج يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط مما يساعد على تغذية المجهود الحربي لروسيا أمر مستغرب لكون الولايات المتحدة هي المستفيدة أيضاً من زيادة الأسعار، ما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لقول ذلك صراحة ومطالبته بإعادة أميركا النظر في أسعار مبيعاتها النفطية لحلفائها.
من الواضح أن حملة إدارة بايدن ضد «أوبك بلس» والسعودية تجهز بذلك مبكراً كبش فداء يمكن استخدامه في حال خسرت الانتخابات التشريعية المقبلة، وبهجومها على حلفائها التقليديين مثل السعودية ستكون قد منيت بخسارة أخرى إضافية.
TT
الولايات المتحدة والإفراط السياسي في توجيه الاتهامات
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة