ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

حرب بوتين

يبدو أمراً أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. القوات المسلحة الأوكرانية تمكّنت من توجيه ضربة طفيفة إلى الجسر الذي كان بوتين قد أمر، بصورة غير شرعية، ببنائه فوق شبه جزيرة القرم التي استولى عليها، فاشتاط الرئيس الروسي غيظاً من تلك الوقاحة، وأمر بقصف كييف حيث وقع تسعة عشر قتيلاً كان يمكن أن يكونوا مائة أو أكثر (لا توجد بيانات دقيقة حول أبعاد هذا القصف والضحايا التي يخلّفها). على أي حال، لم تجرؤ قوات الحلف الأطلسي والولايات المتحدة على الرد بالمثل، لأن بوتين، الذي يلعب بآلاف الرؤوس النووية المنتشرة في روسيا وحولها، هدّد مرة أخرى بتحويل العالم إلى مجزرة نووية مروّعة.
وفي نفس الوقت تبدّى أن الجنود الذين التحقوا مؤخراً بالجيش الروسي بعد التعبئة، يتجاهلون الأوامر التي كان بوتين قد أصدرها، إذ شوهدوا سكارى أو يهربون إلى الدول المجاورة، ما يعطي صورة سيئة جداً عن سلوك القوات المسلحة الروسية ومعنوياتها في هذه اللحظة بالذات. لكن ما يدعو فعلاً للأسف في هذه اللعبة الدموية، هو عدد الضحايا الأوكرانيين الذين يسقطون في هذه الحرب التي، كما تبيّن من سلوك المجنّدين الروس، لا تثير سوى حماسٍ ضئيل في البلد الذي، وفقاً لبوتين، هو الأكثر اهتماماً باستعادة موقعه كقوة عسكرية عظمى. إن ما أظهرته هذه الحرب بوضوح حتى الآن، هي قلة استعداد الجيش الروسي لتنفيذ أوامر بوتين الذي، في كل مراحل هذا الاعتداء، أُصيب بالإحباط جراء تردد جنوده وتقاعسهم. يبدو كأن الرئيس الروسي لم يدرك أن بلاده ليست جاهزة لمثل هذه الحروب التي لا تسفر إلا عن وقوع ضحايا. ومن مفارقات الفلتان النووي أنه يجعل بعض الدول محصّنة ضده، بينما يجعل من أخرى ضحايا له. وهي مفارقة يبدو أن الوحيد المستثنى منها، هو من يحكم كوريا الشمالية.
كل ما في هذه الحرب الدائرة في أوكرانيا يخرج عن المألوف، لا بل يثير الملل، إذ يعرف القاصي والداني كيف ستنتهي هذه المحاولة الروسية لإلحاق الهزيمة بأوكرانيا وإذلالها، وهو أمر لم يحصل بعد بسبب المقاومة الأوكرانية الباسلة في وجه ما كان بوتين ذاته يعتقد أنها مجرد نزهة عسكرية. ومن أكبر المفاجآت التي كشفتها هذه الحرب، أن روسيا هي أضعف بكثير مما كنا نتخيّل جميعاً، ربما باستثناء بوتين الذي لن يتراجع عن مغامرته إلى أن يضع الكرملين حداً لهذا العبث بانقلاب عسكري، أو بخطوة أقل مأساوية.
في غضون ذلك يحبس العالم أنفاسه خشية اندلاع حرب نووية من الاتحاد السوفياتي السابق، ونتساءل: هل من الوارد أن يحصل ذلك؟ إن صحة بوتين العقلية تفتح الباب على كل الاحتمالات، بما فيها نشوب حرب عالمية ثالثة يمكن أن تُفني العالم أو أن تحوّله إلى ركام. من البدهيّ أن أحداً لا يريد ذلك، بمن فيهم بوتين ذاته، رغم أن الانقلابيين الذين يُفترض أنهم سيخلعونه، هم أول من سيدّعي أنهم انقلبوا عليه لأنه كان على وشك أن يقضي على نفسه، وعلى روسيا في آن معاً. ولا شك في أن العالم سينام أكثر اطمئناناً لو أن روسيا، بترسانتها النووية، تكفّ عن التصرّف مثل بعض البلدان الأفريقية، أو بعض دول العالم الثالث.
ما الحل إذن؟ أن يبقى العالم رهينة مزاج بوتين ويتساءل إذا كانت الحرب العالمية الثالثة ستقع أو لا؟ أو يرى كيف، وفقاً لنزوات سيد الكرملين، يغيب الأوكرانيون عن هذا المشهد الذين هم ضحيته الأولى؟ لا شك في أنه لا بد من وضع حد لهذا المشهد المأساوي، لكن ليس على حساب أوكرانيا التي ليس القضاء عليها بعيداً من ضروب الجنون الاستراتيجي لفلاديمير بوتين. والحل الأفضل هو أن يتدبّر معاونو بوتين أمر القضاء عليه أو منعه من مواصلة تصعيد الأمور وتعقيدها، وإسكات تلك الحفنة من المتطرفين الذين يحتكرون محطات الإعلام الرسمية بعد أن قضوا على الوسائل الخاصة التي كانت مستقلة عن الدولة.
الدول الصناعية السبع، أي القوى الغربية، ستطالب الرئيس الروسي بمسؤولياته عن «جرائم الحرب» التي ارتُكبت في عدد من المدن وضد أهداف مدنية أوكرانية. والانطباع السائد بين القراء هو أن هذه التهديدات ستبقى مجرد حبر على ورق وإعلان للنوايا. لذلك، من الأجدى والأكثر فاعلية الآن السعي باتجاه سلمٍ حقيقي عن طريق أيٍّ من المحاولات المطروحة. لماذا لا تقوم دولة من تلك التي سبق أن طرحت مبادرة للسلام، وتطرح اقتراحاً يعطي لروسيا مَخرجاً ويضمن استقلال أوكرانيا وسلامة أراضيها؟ بإمكان أي دولة من الدول التي شاركت في الطروحات السلمية أن تقوم بهذه الخطوة وتحصل على جائزة مقابل ذلك.
لكن للأسف، ليست الظروف الراهنة مواتية لمثل هذه الخطوة بعد ما تناقلته الأنباء عن أن بوتين «يصغي إلى الصقور»، وهو أصدر أوامره بتوجيه ضربات عشوائية ضد أهداف مدنية لإضعاف معنويات الأوكرانيين وإسكات الذين ينتقدونه في الداخل. كل ذلك يكبّد روسيا تكاليف باهظة، إذ تفيد الأنباء بأن الصواريخ التي تستخدمها روسيا في هذه العمليات «العقابية» التي تسعى من خلالها إلى تدمير المعنويات الأوكرانية، تقابلها الصواريخ المضادة من طراز «إسكندر» التي سبق أن استُخدمت لقصف «زابوريجيا»، وتتراوح كلفة الواحد منها، وفقاً لمجلة «فوربس» الأميركية، بين 700 و400 مليون دولار.
من السبل الأخرى لافتراض هذه المرحلة وطرح «خطة سلام» لإنهاء الحرب في أوكرانيا، أن تصدر المبادرة عن إحدى الدول الصديقة لروسيا. ومن شأن ذلك أن يحفظ لموسكو ماء الوجه، وأن يضع حداً للعمليات العسكرية التي تتسبب في وقوع عدد كبير من الضحايا في أوكرانيا. مثل هذا الدور يبدو معدّاً للصين التي، لأول مرة منذ نشوب الحرب، أعلنت عن قلقها من القصف الروسي ضد أوكرانيا.
لا بد من وضع حد لهذه الحرب المحتدمة التي تدمّر أوكرانيا وتزرع الرعب في بلدان الجوار، فيما الدول الغربية الكبرى تبدو سعيدة ومرتاحة أمام هذا الانهيار الممنهج لعدوها الرئيسي، وتنظر بشيء من عدم الاكتراث إلى هذا العقاب المجرم الذي تتعرّض له أوكرانيا، الضحية الحقيقية الوحيدة في هذه المأساة.