خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

«حزب الله» يفقد أكبر معاونيه... خصومه

منذ طعن «حزب الله» رفيق الحريري في ظهره، في يوم عيد الحب، لم يرَ يوماً أفضل من سابقه. ذلك أن الحقد - وإن كان قيمة معنوية - مؤثر للغاية في دراما السياسة، يعمي حامله عن منفعته، ويجعل سعادته الشافية إلحاق الضرر بمن حوله. لا أدعي أنه فشل في مهمته. نجح في جر لبنان إلى حرب بلا جدوى في 2006، ثم في اغتيال نواب الكتل المنافسة ورموزها، ثم في عزل لبنان عن محيطه الأقرب جغرافياً وثقافياً، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت، وأخيراً تدهور اقتصادي طال محفظة الإنفاق اليومي، ووديعة الزمن، لكل مواطن ومواطنة في لبنان.
دانت له السيطرة، وفرض خياراته السياسية، وخياراته من السياسيين. وفي الوقت نفسه فقد أول معاونيه، خصومه الداخليين. أولئك الذين طالما ألقى عليهم عبئه، وتحملوا عنه وزره. فتلقى المدح على حماقاته، وتلقوا اللوم على تدهور حال فاتورة المحروقات، وتردي المرافق. نكران ذات سياسي عاصرته متعجباً مع رفيق الحريري وفؤاد السنيورة.
هل يتوقف الحزب؟ أبداً. انتقل إلى الدائرة التالية. خصومه من دول الجوار. بحبله الموصول مع طهران شنق حبلاً سرياً اقتصادياً ممدوداً في الخفاء والعلن من جيرانه، لم يكن له من مطلب سوى أن ينأى لبنان بنفسه عن أي صراعات إقليمية. قطع بعد وعدٍ وعداً، ثم مزق ما قطع بنفسه على نفسه، بل وانخرط بنشاط في نقل نشاطاته إلى ميليشيات العراق واليمن. والنتيجة ما رأينا. رفع الأصدقاء يدهم عن لبنان وتركوه لحاله. فانكشفت المسافة بين الحقيقة وبين دعاية الحزب. ففقد ثاني أكبر معاونيه، «خصومه» في الجوار. ومهد هذا لكي يفقد ثالث معاونيه، وأطولهم عمراً على الإطلاق.
ظهر الحزب في فترة مضطربة، مراهقة، في سياسة المنطقة. حرب أهلية في لبنان، وثورة توسعية في إيران، وصراع بين الاعتدال والتطرف، بين الاختيارات السياسية والاختيارات الشعاراتية، كان محوره الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. قبل نشأة الحزب المعلنة بثلاث سنوات أسفرت هذه الدعاية عن اغتيال رمز التفكير السياسي، بحربها وسلمها، محمد أنور السادات. اغتيال نفذه متطرفون دينياً، وتغنى به متطرفون سياسياً. عاش «حزب الله» مدللاً في ظل هذه الدعاية، مرفوعاً عنه القلم، رافعاً لواء الخصومة للعقلانية السياسية، متغذياً على دعم شعاراتي من تيارات الفشل المتكرر المتبجح المعجب بنفسه.
ثم تشاء المصادفة التاريخية، في ذكرى تشييع السادات قبل 41 عاماً، أن يفقد أيضاً هذه الخصومة التي طالما أعانته. توصل لبنان إلى مسودة اتفاق لترسيم الحدود مع إسرائيل. وهو اتفاق لم يكن لبنان ليجرؤ على الخطو إليه، علاوة على مصافحته بيده، إلا بموافقة «حزب الله» وتأييده ومباركته. حل تفاوضي، واعتراف، دافعه أضعف كثيراً من دافع السادات إلى مثله. أعانته إذن الخصومة مع العقلانية السياسية دعائياً. منحته الدعم الأخلاقي لكي يعيد سيرة الفشل الأولى، والثانية، والثالثة، لتيارات الممانعة. هل تتوقف الدعاية الآن بعد فقدان دعوى خصومتها مع الحلول التفاوضية؟ أشك. لكنها ستفقد بالتأكيد كثيراً من زخمها المعنوي، وستثير السخرية لدى قطاعات أوسع.
كل خصم تغذى «حزب الله» على دمه، ظلماً وعدواً، فقد الحزب بفقدانه ما اكتسبه سابقاً بوجوده وأكثر. فقد مصداقيته، والتماسك الظاهري لموقفه ومواقف مناصريه، والعلياء المظهرية لأخلاقه وأخلاق مناصريه. ارتباك الموقف المعلن لحركة «حماس» دليل. الصمت المريب لخبراء الممانعة في الإعلام بليغ. خدعة حسن نصرالله الإعلامية ساذجة. حوَل العيون من سؤال «إيه دا يا غالي؟» إلى سؤال هل هذا اتفاق أم تفاهم؟ هل هو دائم أم مؤقت؟ ولو كان مؤقتاً فما أجله؟ أسئلة ثانوية قدم لها إجابات غير شافية. فلا السؤال كان بحجم الفضول الحقيقي المحيط به، ولا حتى الإجابة كانت بحجم الفضول الذي اصطنعه. وهذا في حد ذاته يعكس إدراكه لأزمته.
السياسة، كالدراما، كحياتنا، كالفيزيا. لا تُصطنع أفعالها من عدم، ولا تعفيك عواقبها منها بمحض التلاشي.