مها محمد الشريف
كاتبة سعودية مختصة بقضايا الشرق الأوسط والعالم، كتبت في العديد من الصحف الرسمية السعودية وصحيفة «الرؤية» الإماراتية، وتكتب بشكل دائم في صحيفتَي «الجزيرة» و«الشرق الأوسط». لها اهتمامات بالرسم والتصميم الاحترافي.
TT

جائزة «نوبل للسلام» في زمن الحرب

إننا نعايش اليوم تحولاً كبيراً في السياسة والاقتصاد والتبادل والاستهلاك، نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، وحشداً كبيراً في ظل توفر مجموعة من التقنيات ووسائل الاتصالات، حتى كادت الحرب تعمم وتشمل العالم بأسره في الغرب والشرق، فلم تعد تقتصر الأزمات والحروب على النقاط الحدودية، بل شملت جميع القارات بأشكال جديدة وغير مرئية، وتُستخدم فيها أشد الأسلحة فتكاً بالبيئة والإنسان.
لذلك واجه المخططون سياسة عالمية خطيرة تؤذن بانهيار دول، ولم يعد المسار كما كان حقلاً خصباً للحوار والدبلوماسية، فكل شيء يتحدد وفقاً لنتائج الحرب، وهذا التسليم يقطع الطريق على كل المحاولات التي تريد أن تعيد الهيمنة للماضي، فقد واجهت انتقادات وتوجسات ومحاذير بشأن انعكاساتها الخطيرة والمؤثرة، وهو استنتاج عزّزه ما تكشّف لاحقاً من أن أسلحة نووية تكتيكية جرى نشرها، وأن عدد القوات الروسية كان أكبر بكثير من تقديرات الاستخبارات الأميركية.
من الجلي - إذن - أن الإنسان المعاصر عالق بين ضدين لا يلتقيان أبداً، وهما الحرب والسلام، ويهتز ويتهاوى أمام التقصي الدقيق للحالات والتشخيص الميداني المحاط بأشكال وصور ورموز وطقوس ونظريات ومفاهيم ترتبط جميعها في النهاية بالسياسة... إنه كون مليء بالتأثيرات والأحلام والأمنيات، وأيضاً بالأوهام، ويظل يسير في حلقة مفرغة، ويسير عبر مسار طويل ومعقد.
في نهاية المطاف يظل الإنسان ينشد وينتج المعنى، والسؤال: لماذا لا يعم السلام، وهناك جائزة سلام تُمنح وفقاً لوصية رجل الصناعة ألفريد نوبل، مخترع الديناميت ومؤسس جوائز «نوبل»، بأن تذهب الجائزة لشخص «فعل الكثير أو أتى بأفضل ما يمكن لنشر الوئام بين الدول، ولإلغاء انتشار الجيوش القائمة أو خفضها، وللنهوض بمنتديات السلام»؟
جائزة قيل عنها إنها للسلام، ولكنها اليوم تُمنح في زمن الحرب؛ حرب تدور رحاها في أوكرانيا، وعواقبها الكارثية قائمة على الأحداث الدولية منذ بدء العملية الروسية في 24 فبراير (شباط)، وينعتها البعض بأنها صورة منغرسة في وجدان الغرب، ويستحيل على «لجنة نوبل» التغاضي عن استحضارها، وتأكيد تعزيز دورها؛ حيث قال مدير «معهد أوسلو لأبحاث السلام»، هنريك أوردال، الخميس الماضي، متحدثاً لإذاعة «إن آر كي»، إنه «من المحتمل أن نكون أمام جائزة تشير بطريقة ما باتجاه أوكرانيا».
وغرّدت «لجنة نوبل» النرويجية على «تويتر»، قائلة إنها اختارت منح جائزة مشتركة للناشط الحقوقي البيلاروسي، أليس بيالياتسكي، ومركز «ميموريال» لحقوق الإنسان الروسي، ومركز «الحريات المدنية» الأوكراني؛ لأنهم «يمثلون المجتمع المدني في دولهم الأصلية». ويُعلن اسم الفائز بجائزة «السلام» في أوسلو، في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، كأخطر أزمات تواجه أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، فإلى أين المفر من هذه الحرب، وكل المطالب المنشودة والمهمة العسيرة منفلتة من عقالها، وتمضي قدماً نحو حرب مستعرة لا تحتمل منافسة للحصول على جائزة تخضع لاعتبارات سياسية منذ زمن؟
فهل يمكن أن نعتبر اختيار المرشحين أو الفائزين تتابعاً لحلقات مكررة لنيل الجائزة؟ إذا كان غرض الجائزة التواصل بين المتخالفين، والتعايش بين المتخاصمين، والعقد الحواري الذي تتأسس عليه الجماعة البشرية، وتوظيف الاتفاق في رفع أشكال الالتباس والتفاهم في المجتمعات، فالجائزة هذا العام تذهب لمنظمتي «ميموريال» الروسية، ومركز «الحريات المدنية» الأوكراني، والبيلاروسي أليس بيالياتسكي.
جائزة «نوبل للسلام» تأخذ إلى حد كبير بوصلة سياسية تتناغم مع الأحداث وفق رؤية الغرب بقيادة أميركا، وخير دليل على ذلك هو ما قيل من أنه من المتوقع فوز صحيفة «كييف إندبندنت»، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، والعديد من الأسماء التي تعكس وجهة نظر غربية، حتى وإن كان منهم مَن يُعد مقاوماً لغزو طال دولته، لكن ما نعتقد حول مثل هذه الجائزة أيضاً، أن يكون المعيار الأساسي لمن يحقق السلام وينزع فتيل الحروب، لا مَن يساهم في إشعالها، حتى لو كان عن غير قصد، أو بسبب قراءة خاطئة للواقع؛ إذ يجب أن يُقاس مقدار القيمة من أحكام الواقع الذي يعتبر إشكالية كبرى تثير حفيظة العالم الذي لا تحكمه قيم، فهناك جدلية عميقة حول مفهوم السلام الذي وُضعت على أساسه معايير الجائزة، فالغموض والجدل حوله سيبقى قائماً، ونستذكر دليلاً قاطعاً حول ذلك، عندما مُنح الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الجائزة وهو لم يمضِ في منصبه إلا أياماً قليلة لم يكن قد حقق فيها ما يشفع له بالحصول على الجائزة، بل قيل إنه تفاجأ بها!