ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

خافيير ماريّاس

كان خافيير ماريّاس خجولاً إلى درجة أنه تدبّر أمره كي يموت خلال تشييع ملكة إنجلترا، ظنّاً منه أن خبر وفاته سيمرّ مرور الكرام في خضمّ الحشد الصحافي والتعبئة الإعلامية التي رافقت رحيل إليزابيث الثانية. لكنه أخطأ في تقديره، لأني نادراً ما وقعت على هذا القدر من المقالات في الصحافة الإسبانية حول وفاة شخص مثل وفاته.
كان محبّوه والمعجبون به كثراً، وعندما كان يطلب الكلمة في مجمع اللغة الإسبانية، من مقعده الذي سيبقى خاوياً إلى أن ننتخب خلفاً له، كان زملاؤه يصغون إليه في صمت مطبق. كان يتحدّث بدقة وأناقة، بعكس الأسلوب الذي كان يستخدمه في كتابة المقالات حيث كان يميل إلى المبالغة والشطط عند تناول بعض القضايا التي تهمه بشكل خاص.
لكن أعتقد أنه كان فخوراً جداً بالروايات الممتازة التي كتبها، وبدار النشر «مملكة» ريدوندو، التي أسسها بمبادرة فردية منه شرح لي تفاصيلها وملابساتها خلال رحلة ترافقنا فيها إلى سانتادير منذ سنوات بعيدة، وكيف أنها كانت تقوم على شخصين فحسب: هو في مدريد، ومساعدة له في برشلونة. لكن رغم ذلك كانت الكتب التي صدرت عنها منذ تأسيسها ذات نوعية ممتازة أقبلت عليها نخبة من القرّاء.
منذ أن قرأت له «فؤاد شديد البياض»، التي عدّها من أفضل رواياته، أدركت أن تلك الجمل الطويلة، التي كانت تنمو وتطول من رواية إلى أخرى إلى أن تجاوزت الصفحة الواحدة من غير فواصل أو نقاط، كانت وليدة التأثر بويليام فولكنر الذي وضع عنه خافيير ماريّاس بحثاً أدبياً رائعاً. كان إتقانه اللغة الإنجليزية يوازي إتقانه الإسبانية، بفضل تنقله في شبابه بين الولايات المتحدة وإسبانيا، ثم في أكسفورد، ونشر كتاباً حول الرحلة التي قام بها ويليام فولكنر إلى اليابان وأوهم الصحافيين بأنه ليس سوى «فلّاح». كان فولكنر يهوى الخيول، ويكتب من باب التسلية، ولا يهتمّ أبداً بأسلوب الكتابة أو بنيتها، فيما كان قرّاؤه يعيدون مطالعة جمله، لفهمها، ثلاث مرات أو أربع. ولأنه كان يكره الصحافيين، كان فولكنر يروي لهم أموراً غريبة عن رواياته وأسلوبه في الكتابة، والمستغرب أن اليابانيين كانوا يصدقونه. لكن خافيير ماريّاس لم يصدّقه، وفي ذلك البحث الرائع يشرح لنا الأسباب.
النثر عند ويليام فولكنر هو الأفضل من حيث التأثر بالموروث الذي تركه لنا جيمس جويس، مع الحفاظ على هويته الخاصة، ولا شك في أن خافيير ماريّاس هو أقدر الذين تأثروا بويليام فولكنر في اللغة الإسبانية، بتلك الجمل الطويلة التي خرجت من ريشته، والتي نقرأها من بدايتها إلى النهاية في حال من الاختطاف والمتعة التي لا نعرف إن كانت نابعة من الحبكات المتشابكة في الرواية أو من تلك الجمل اللامتناهية التي تسردها، دائماً بدقة، وفقرات لا تتداخل أبداً بفضل العناية التي يوليها الكاتب لفصل العبارات بعضها عن بعض بأناقة لا تقطع التواصل بينها. كل ذلك مفصّل بوضوح في البحث المذكور.
كان خافيير ماريّاس أقرب الكتّاب الإسبان من جيله لنيل جائزة نوبل للآداب، وكثيرون هم الذين أسفوا لعدم حصوله عليها. كان اسمه دائماً على إحدى لوائح المرشحين التي يتبادلها أعضاء الأكاديمية السويدية في انتظار دوره، لأنه كان بلا شك جديراً بنيلها، والآن يخضع لحكم النقّاد على ما كتبه، من غير جوائز أو ألقاب. وسيجتاز الامتحان بتفوّق، لأنه كان واحداً من أفضل الكتّاب باللغة الإسبانية، وأبرع الذين استفادوا من الدروس التي تركها لنا جويس وفولكنر، اللذين أقبل القرّاء على مطالعتهما بقدر ما أساء المترجمون نقلهما إلى لغتنا. نثر فولكنر معقّد ومتشابك، ويقتضي مهارة فائقة لكشف كل ما يزخر به من تلميح وإيحاء -بين أفكار، ومشاهد، وعود إلى الماضي وقفز نحو المستقبل، وتداخل الشخصيات التي تفكّر وتتحدّث في نفس الوقت، وتلك الحكايات الكارثية دوماً التي ترسم لنا صورة مروّعة عن الصراعات بين البيض والسود في مقاطعة يوكناباتاوفا الصغيرة التي تدور فيها وقائع رواياته وقصصه. لكن خافيير ماريّاس أفلح في المقابل في أن يكون أكثر وضوحاً ومباشرةً في رواياته، من غير أن تكون تلك الجمل اللامتناهية التي كان ينسجها عائقاً أمام قرائه لمتابعة أحداثها وفهمها. فهي كانت تجمع بين الغابر والحاضر، ومراحل مختلفة من الماضي، لكن من غير أن يقود ذلك إلى صعوبة في القراءة، لأن الرواية كانت وليدة تأمل طويل ومراجعة دقيقة. لم أحظَ بسماعه محاضراً، لكني أعتقد أنه كان أستاذاً رائعاً، ينقل إلى طلابه وسامعيه عدوى الأفكار الخصبة التي كان يحملها عن الأدب الذي كان يكتبه والذي تركه لنا المحظيّون عنده من الأدباء مثل جويس وفولكنر دائماً في المقام الأول.
ليس من السهل الانتماء إلى عائلة أدباء، كما كان الحال بالنسبة لخافيير ماريّاس. فالاختلاف في الرأي مع والده، الذي كان فيلسوفاً كاثوليكياً وكاتباً ممتازاً رغم الأمور التي كان يدافع عنها، لم تَرشح أبداً في النصوص التي كتبها عنه، وبخاصة عندما رثاه بقوله إنه سيتذكره دائماً وبيده كتاب، طوال السنوات التي عاشها إلى جانبه في ذلك البيت الواسع وسط مدريد بعد أن تفرّق شمل العائلة. جاءه الموت وحيداً، رغم أن أصدقاءه كانوا يترددون عليه ويصطحبونه إلى أحد المقاهي الكثيرة التي تحيط بالمنزل الذي كان يسكنه في العاصمة. كان من الكتّاب الذين يعرفون مدريد جيداً، كما يستدلّ من بعض كتبه التي تزخر بتفاصيل دقيقة ومدهشة عنها. وكان يرى في عادات المدينة وطقوسها مفاتن تزيد من جمالها، رغم أنه كان ينفر من مصارعة الثيران، والعروض العسكرية، والاحتفالات الدينية، وبخاصة من المظاهرات التي كان يعدّها شكلاً من أشكال البربرية.
تبرز دائماً في رواياته بعض الشخصيات التاريخية التي تنشأ عادةً بينها علاقات حب تنتهي بشكل مأساوي، كما في روايته الأخيرة. والرحيل في السبعين، قبل السقوط في سخف الحياة، كما حصل مع خافيير ماريّاس، يُبقيك دائماً في الموقع الذي كنت فيه، كيّس التصرّف، دافئ القول، رغم أنه كان في بعض مقالاته يتجاوز الحدود مغتاظاً من أحداث أو أفعال مؤسفة. لم يكن يعرف الخشية، وكانت صراحته المعهودة مصدراً لانتقادات وعداوات كثيرة لم يكن حتى مدركاً لها. كان كاتباً حقاً، في السرّاء والضرّاء، لا بد من العودة إلى قراءته، لفهمه كما يجب، والتقاط الرسائل التي تركها، والتي كانت موجهة بشكل خاص إلى الشباب، إلى أولئك الذين سيكملون الطريق التي سارت فيها حياته وكان فخوراً بها. كان من أثقف الكتّاب الإسبان، وترك رسائل مدفونة في تلك الجمل التي وحده كان يتلمّس الطريق بوضوح فيها، بعكس قرّائه الذين يجب أن يعودوا إلى رواياته ويتأملوا فيها كما في روايات معلمه فولكنر.