جوتشن بتنر
TT

لماذا لا تستطيع ألمانيا قيادة أوروبا؟

تصور مبنى في برلين بارتفاع يسمح للناظرين برؤية القارة بأكملها وما وراءها. ماذا سترى؟ إلى الشمال سوف ترى قوة عظمى تسعى لاستعادة مجدها القديم، بينما تنحدر في طريق الديكتاتورية. إلى الغرب، عبر الأطلسي، سوف ترى قوة عظمى حقيقية تراجعت وقد أنهكها السعي لتوفير الأمان لمحيط القارة الأوروبية، خاصة للشرق الأوسط الذي بات يعانى من فقدان بنية دوله واحدة تلو الأخرى.
ماذا ترى تحت قدميك؟ قارة من الممكن أن تصبح قوة عظمى، إلا أنها مشغولة بالسيطرة على نفسها جسدا وروحا للدرجة التي تشعرك معها أن الأرض تهتز من تحت قدميك.
الأوروبيون أصابهم الدوار من دون شك، وهذا ليس بالأمر السيئ من حيث المبدأ، فالدوار قد يكون أفضل طريقة كي تتخذ موقفا جديدا حازما. فالمشكلة بالنسبة لأوروبا هي أن الأمر يتطلب إرادة قوية جدا وموهبة سياسية كي يحفظ الجسم توازنه في ظل وجود ثمانية وعشرين دماغا.
دبرت الحكومة الألمانية الحل لمشكلة الديون من أجل توفير الاستقرار السياسي لأوروبا بعد أزمة الديون، إلا أنها الآن تواجه تحديا أكبر، ألا وهو منح القارة جرعة من الثقة هي في أشد الحاجة إليها لتستعيد إيمانها بنفسها. وهناك سؤالان في حاجة إلى إجابات جديدة واضحة: ماذا تعني أوروبا؟ وعما تدافع؟
القصة القديمة هي أن التكامل الأوروبي يثمر سلاما وثروة، بينما تكتسب القصة المعاكسة زخما أكبر، وهي أن قسما كبيرا من سياسيي الجيل الثالث في دول الاتحاد الأوروبي، وكذلك المواطنون العاديون، يبدون عداء واضحا لروح القومية التي ولدت في بروكسل.
تُعتبر فرصة مارين لوبين، زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني، كبيرة لتصبح رئيسة لفرنسا عام 2017. وفى الوقت نفسه، فقد أجبر حزب استقلال المملكة المتحدة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون - وكذا تيار حزبه المحافظ المتشكك في جدوى الوحدة الأوروبية - على المبادرة بالهجوم بأن دعا إلى استفتاء شعبي بنهاية عام 2017 حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
سوف يكون انسحاب اليونان من الاتحاد الأوروبي أمرا مؤلما، إلا أن انسحاب بريطانيا سوف يكون بمثابة الكارثة، حيث لن يفقد الاتحاد مجرد عضو منعزل من بين 28 عضوا، لكنه سوف يفقد أحد أكبر وأقوى الأعضاء.
وبمجرد أن يبدأ التفتت فسوف تعمل آلة الطرد المركزي وتخرج عن السيطرة. فقد انتخب البولنديون أخيرا أندريز دودا، البالغ من العمر ثلاثة وأربعين عاما، رئيسا للجمهورية. ويعتبر دودا صاحب نشأة محلية يتبع مدرسة المحافظين الجدد ولا يعارض الانضمام لمنطقة اليورو فحسب، بل أيضا يتبنى النهج المتشكك في جدوى الوحدة الأوروبية ليبدو كأنه نسخة مكررة من ديفيد كاميرون. ويدين دودا بنجاحه المفاجئ للناخبين الشباب، حيث جاءت نسبة 62 في المائة من الأصوات التي تحصل عليها من خلال الشباب من الفئة العمرية ما بين 19 و29 عاما، في مؤشر غير سار لسمعة الاتحاد الأوروبي في أوروبا الشرقية.
وتعتبر معارضة فئة الشباب لأوروبا الكبيرة أو لجيل الكبار فيها خطرا داهما لم يدركه كل أعضاء الاتحاد الأوروبي؛ ففي اليونان وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا، حيث ارتفع معدل البطالة بين الشباب إلى 45 في المائة، لم يقدم الاتحاد الأوروبي سوى ما يبقيه بالكاد فوق خط الفشل، حسب صحيفة «الإيكونوميست».
ما كان يشكل يوما حلما للتكامل الأوروبي بالنسبة للبعض تحول الآن إلى كابوس ينبئ بديكتاتورية الاقتصاد الأجنبي بالنسبة للبعض الآخر. وما وعدوا به من رخاء غير مسبوق وتجارة حرة وعولمة تحول اليوم، بالنسبة لملايين الشباب الأوروبي، إلى واقع من حياة التقشف، وأدركوا أنهم لن ينعموا بنفس مستوى معيشة آبائهم.
وشكل ذلك في حد ذاته خيبة أمل كبيرة، وغذى إحساسا بالحنين لعالم الأمس ولعولمة أقل، ولبدائل تحل محل ما يسمى الاقتصاد «الليبرالي الجديد». يستطيع المرء بسهولة أن يتخيل حالة السعادة التي تنتاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما ينظر للأسفل تجاه أوروبا التي تزداد حيرتها في الإجابة عن السؤال: ما هي الأشياء التي تستحق بالفعل الدفاع عنها؟
يعرف المسؤولون الحكوميون في برلين أنهم وحدهم من يملكون الإجابة، وليست بروكسل. لم تخرج ألمانيا من أزمة اليورو قائدة للاقتصاد الأوروبي فحسب، لكنها أيضا تتمتع بقوة ناعمة متزايدة في أوروبا والعالم، فألمانيا تدرك أن عليها أن تتحرك. أخيرا صاغ توماس باجر، مدير التخطيط السياسي بوزارة الخارجية الألمانية، معادلة تسترشد بها برلين الطريق إلى مكانها الجديد، في رسالة مفادها أن الوقت قد حان لألمانيا أن تتبوأ موقع الصدارة في أوروبا، لكن كيف؟
في الحقيقة، تتمتع ألمانيا، وهى في عز قوتها، بنفوذ سياسي واسع، إلا أن أزمة اليورو، والأزمة الأوكرانية، وأزمة الثقة، تعتبر كلها مجتمعة أكبر من أن يتحملها شعب واحد. وفقا للتقارير، فإن فرانك والتر شتاينماير، وزير خارجية ألمانيا يضحي بعطلات نهاية الأسبوع بأن يقضيها في جلسات مباحثات ثنائية رغم أنها كانت في أوقات الهدوء السابقة عملا روتينيا لأسلافه.
عندما تتحدث مع دبلوماسيين رفيعي المستوى في برلين، قد تسمع بعض الأفكار القوية الجديدة عن كيفية التعامل مع الضغوط، وقد تسمع بدلا من ذلك سلسلة من التنهيدات والتلويح بالأيدي. ولجعل الأمر أكثر تعقيدا، فإن شتاينماير والمستشارة أنجيلا ميركل ليسا من تلك النوعية التي تخاطب قلوب الناس، لكن لو تحدثنا هنا عن العقلية والأسلوب فهما سياسيان كبيران: محللان ناقدان يتصرفان بروية، ودائما ما ينظران، ونادرا ما يقفزان.
بكلمات أخرى، لا تستطيع أوروبا أن تنظر لألمانيا كقيادة طويلة الأمد، على الأقل الآن، فألمانيا تستطيع فقط توفير استقرار مؤقت، لكنها لا تستطيع إنهاء حالة الفوضى والدوار السائدة.
وهذا ليس بالأمر الجديد على القارة، فأوروبا ظلت دوما في حاجة لعدة محركات، ويتحتم على فرنسا العودة لمكانها القديم شريكا في قيادة الاتحاد الأوروبي، ويجب على كل من بريطانيا وبولندا البقاء في عضوية الاتحاد.
الخطر الحقيقي لما تمثله اللحظة الألمانية على باقي دول أوروبا هو أن حكومات الاتحاد الأوروبي ومن يصوتون لها في الانتخابات اعتادوا دوما إحساس العجز، انتظار الإجابات، وكذلك المساعدات من برلين. لكن صدق أو لا تصدق: برلين أيضا في حاجة إلى المساعدة.
* خدمة «نيويورك تايمز»