جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

ليبيا: أسئلة الغنيمة وأسئلة الهُوّية

قد يبدو العنوان أعلاه غريباً بعض الشيء، لمن ليس لهم دراية بما يحدث في تلك البقعة الجغرافية المطلة على جنوب المتوسط، بوضعها الاستثنائي، سياسياً وعسكرياً، منذ فبراير (شباط) 2011. ذلك أن أسئلة الغنيمة: مَن يستحوذ على ماذا؟ لا تحظى عادةً باهتمام المؤرخين أو الأكاديميين أو المثقفين إلا بقدر يسير، ومن باب العلم بالشيء. وتكاد تكون مقتصرة على اهتمام فئة معينة يطلق على أصحابها أوصاف وألقاب شرفية رسمية، تُنتزع في ظروف غير عادية، ولأغراض مشبوهة. لكن لدى احتدام حرارة النقاش، من حين لآخر، يتم تجاوز تلك الألقاب، ويوصفون باللصوص. في حين أن أسئلة الهُوّية مختلفة، وذات صلة بمنابع الروح، وبالتاريخ وباللسان وبالثقافة والسياسة، بالماضي والحاضر وبالمستقبل، وتهمُّ المثقفين والأكاديميين والمؤرخين والسياسيين، كما تهمّ رجل الشارع العادي.
أسئلة الغنيمة، ليست جديدة، ونابعة من ثقافة الغنيمة، التي تطرق إليها الباحث التونسي الراحل المنصف الوناس في كتابه «الشخصية الليبية»، إذ ربطها بثقافة القبيلة. والنظام السابق قبل عام 2011 زادها قوة وانتشاراً، حتى أضحت سمة ظاهرة لا يمكن تجاهلها، زادت في اتساع مساحة رقعة الفساد، واستحواذ ثقافته.
أسئلة الهُوّية، تاريخياً، تعدّ حديثة نسبياً ومعاصرة. ونشأت بعد تأسيس الدولة الليبية عام 1951، وظهورها دولة مستقلة على خريطة العالم. ويؤرَّخ ظهورها أول مرة بصدور كتاب الكاتب الراحل عبد الله القويري المعنون: «في معنى الكيان»، في الستينات من القرن الماضي. إلاّ أن الظروف الاستثنائية الليبية، على الأوجه كافة، جعلت الغنيمة والهُوّية تسيران معاً، في وقت واحد، في خطّين متوازيين.
أسئلة الغنيمة: مَن سرق ماذا؟ استشْرتْ وتوطدت من أعلى قمة الهرم السياسي إلى القاعدة. لكن أسئلة الهُوّية بطبيعتها ظلت تراوح في مساحات معينة، وتزداد حضوراً بتزايد نسبة المعاناة، في بلد بحدود منتهكة، وبثروة منهوبة، بات مرتعاً لتجار تهريب البشر والمخدرات والقتلة من كل أرجاء العالم. والهُوّية الليبية تعرضت خلال حقبة النظام السابق إلى هجمة شرسة، أدت إلى اختفاء اسم ليبيا حتى من الاسم الرسمي للدولة، تحت تأثيرات فكر قومي عروبي، يَعِدُ بفردوس دولة عربية من المحيط إلى الخليج، وبإلقاء إسرائيل في البحر، وتحرير فلسطين، الأمر الذي أدى إلى ضمورها، واختفائها في جيوب صغيرة، بعيداً عن أعين النظام وأجهزته الأمنية والعقائدية.
لذلك، كلما ازدادت عتمة الواقع الحالي حلكة، تفاقم الخوف من المجهول - المستقبل، واضطر الناس إلى النظر إلى الوراء، بحثاً عن الخلاص، والعودة إلى ما فقدوه من أمن واستقرار. المشكلة أن تلك النظرات الورائية تفاوتت بتفاوت الفروق بين أصحابها. وعلى سبيل المثال، يرى البعض أن الأمان لا يكون إلا بالعودة عشر سنوات إلى الوراء، أي إلى النظام السابق. البعض الآخر يمد بصره إلى أبعد من ذلك، ويرى أن الخوف من المجهول لا يزول إلا بالعودة إلى ما قبل 1969، أي عودة الملكية. إلا أن هناك فئة أخرى تفضل العودة مسافة 400 عام إلى الوراء، إلى حقبة السلطنة العثمانية. وبالطبع، هناك كذلك من يرى أن تلك المسافة الزمنية غير كافية، ويقترح العودة مسافة زمنية أبعد، تقدَّر بألف عام وأكثر إلى الدولة الإسلامية، وهم السلفيون. وهذا يعني أن هناك صراعاً على الهُوّية الليبية بين فئات عدة. وأن الصراع ظهر بعد فبراير 2011، ولم يعد خافياً، ووصل إلى درجة الاحتداد ورفع السلاح. وفي العاصمة الليبية طرابلس يبدو الأمر شبه محسوم، بسيطرة السلفيين، بقوة السلاح، على أغلب مقدرات المدينة، وفرض ثقافتهم ورؤيتهم على أهلها، وتحت مظلة رسمية مُنحت من دولة لا وجود لها واقعياً وفعلياً، ولهم امتدادات في أغلب المدن الكبيرة، خصوصاً في شرق ليبيا، ويحظون بدعم من خارج الحدود من قوى إسلامية سلفية.
والزائر إلى العاصمة الليبية هذه الأيام، لا يمكن أن تفوته ملاحظة مظاهر ذلك الصراع، متجليةً على المستوى الشعبي، وممثلةً فيما يرتديه سكان المدينة من أزياء، وحيث الحضور اللافت لما يطلق عليه الزي الإسلامي السلفي، وما ارتبط به من مظاهر، مقابل أنصار العودة إلى ارتداء الزي الشعبي الليبي المتوارث، أو أنصار الزي الإفرنجي. وبالطبع، فإن أسئلة الثقافة تعددت بتعدد الولاءات السابقة للهُوّيات المتصارعة. وهذا يقود بطبيعته إلى أسئلة الواقع، التي هي أسئلة السياسة. وفي خضم تلك الصراعات، يبقى المستقبل معلقاً في كفّ الغيب؛ إذ لا أحد يجرؤ على المراهنة على الوجهة التي من المحتمل أن تسير نحوها الأحداث، لأن الأطراف المحلية ليست لوحدها، بل متصلة بروابط بأطراف خارجية، وبمصالح اقتصادية وأمنية واستراتيجية.