حنا صالح
كاتب لبناني
TT

ثمن التخلي عن الخط 29: إسرائيل تفخخ الترسيم والحدود!

سريالي، مبكٍ ومضحك، المشهد اللبناني:
الفراغ الحكومي يتمدد، وممنوع تأليف حكومة تحاكي بالحد الأدنى الرسائل التي وجهتها انتخابات 15 مايو (أيار) وما شهدته من تصويت عقابي واسع. توازياً سلّم أطراف نظام المحاصصة بالشغور في الرئاسة لـ«تعذر» انتخاب رئيس قبل 31 أكتوبر (تشرين الأول)، موعد نهاية الولاية. والطامة الكبرى ما برز بشأن ترسيم الحدود من أفخاخٍ تتقنها إسرائيل التي استغلت تنازل «منظومة النيترات» عن الخط 29، خط الحدود والحقوق والثروة!
بالتزامن يتسارع انهيار المؤسسات الرسمية والعامة، منها ما سقط ومنها ما هو قيد السقوط. والأشهر القليلة الماضية رسمت خطاً منحدراً لتلاشي ميزات التفوق اللبناني وأبرز عناصره: التعليم والاستشفاء! وفي المقابل امتنع الفريق المتسلط عن أي تدبير يكبح الانهيار، ويحمي ما قد يعيد ترميم السلطة والمؤسسات، لكن تغول الدويلة اتسع، والقلق مقيم من تبلور عناصر قيام «دويلات» كرتونية تغطي دويلة «حزب الله»!
على مدى أشهر ركزوا أنظار الناس على الثروة الغازية المنتظرة. و«الحلول» التي رُوِّج لها، كانت الوعد بأنها ستُسكت البطون الخاوية. أراد عون أن يتوج عهد الانهيارات والإذلال بإعلان تحول لبنان إلى دولة غاز ونفط، فاستقتل لتحقيق ترسيم الحدود البحرية بأي ثمن، ودوماً بأمل المكافأة برفع العقوبات الأميركية عن جبران باسيل، مقابل التفريط في السيادة، فيما «حزب الله» الذي اختطف الدولة، راوح موقفه بين أولوية توظيف الترسيم لدعم مفاوضات فيينا أو خلق «شبعا» بحرية للتمديد لسلاحه، ودوماً لاستبعاد المساءلة وهو الممسك بالقرار فأغدق الوعود بأن الثروة ستنهي المجاعة وتنقل اللبنانيين من حالٍ إلى حال!
بدورها تمنت أكثرية اللبنانيين فشل التفاوض والتنقيب لتحفظ الثروة تحت البحر، حتى تتغير الأحوال السياسية فتستخدم لاستنهاض البلد، وتحقيق الفائدة لأهله.
وكان المشترك بين الناس أن المتسلطين سينهبون الثروة، عندما لوحظ الاستقتال العوني على التنقيب في منطقة، مقابل استقتال الثنائي المذهبي «أمل» و«حزب الله» على التنقيب في أخرى كأن هذه المناطق حق بالوراثة للفريقين! ولأن لا أسرار في لبنان، تبيّن أن الفريق المتسلط أسّس نحو 50 شركة صورية، تمت قوننتها ضمن قانون النفط الفاسد، الذي يجبر شركات التنقيب والاستخراج على التسويق من خلال هذه الشركات بالذات، أي وضع اليد على الثروة!
لكل ذلك كانت دعوات المواطنين وتمنياتهم بتأخير التنقيب منعاً للسطو على الثروة. استبقوا تقرير البنك الدولي (أغسطس - آب الماضي) الذي فضح «مخطط التمويل البونزي» الذي عرفه لبنان منذ نهاية الحرب، وتفاقم قبل ثورة «17 تشرين»، وخصوصاً بعدها، وشهد أكبر سطوٍ في التاريخ. وشكّل التقرير إيّاه الدليل الدامغ على صحة هذه المخاوف عندما أُثبت بالأرقام أن «النخبة» المتسلطة وضعت «يدها على المالية العامة وحوّلتها إلى أداة سيطرة ممنهجة خدمت مصالح نظام سياسي متجذر وحققت مكاسب شخصية لأطرافه»!
طيلة أشهر نشطت الماكينات الإعلامية لتبرير جعل الخط 23، خط ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، رغم افتقاره لأي حجة قانونية، كونه لا ينطلق من نقطة الحدود البرية. ومضت البروباغندا الإعلامية بتضخيم الإنجاز الموعود، وضخ الوعود والتفاؤل لتغطية التنازل الخطير عن السيادة المجسدة بالخط 29 الذي ينطلق من رأس الناقورة ويمر بالنقطة الحدودية B1، منطلق الحدود البرية المرسمة في اتفاقية «بوله نيو كمب» التي جرت بين لبنان وفلسطين عام 1923، بين دولتي الانتداب فرنسا وبريطانيا، ليتم تثبيتها في عصبة الأمم عام 1924، واعتُمدت كأساسٍ في اتفاقية الهدنة بين لبنان وإسرائيل عام 1949. أي ما يمنح لبنان حقوقاً كبيرة في «حقل كاريش» المثبت احتواؤه على ثروة غازية. وتغافل المروجون للإنجاز الوهمي عن أن اتفاق «17 أيار» الشهير، أيام حكم الرئيس أمين الجميل، كان يمنح لبنان في الملحق رقم 8 «حقل كاريش» كاملاً، أي إنه نقل الحدود البحرية للبنان إلى ما بعد الخط 29!
في التاسع من سبتمبر (أيلول) الجاري وقعت الواقعة. كان الرسميون ينتظرون من الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين، أجوبة تل أبيب الخطّية على العروض اللبنانية السخية، وفوجئوا بأن زيارة «الوسيط» التي اقتصرت على 3 ساعات، حملت «وديعة» من يائير لبيد رئيس وزراء إسرائيل، بـ«موافقة» تل أبيب على الخط 23 و«حقل قانا» الذي لم يشمله التنقيب ولا معطيات جدية عن محتوياته. لكن «الوديعة» أُرفقت بمطالبة بأن يُعتمد في الترسيم «خط أزرق» بحري، أساسه خط «العوامات» الإسرائيلية المتحركة التي تمتد بعمق 5 كيلومترات... ليتبين أن «وديعة» لبيد تذكّر بـ«وديعة» رابين بشأن إعادة الجولان!
وتتالت مطالب تل أبيب التي فخخت كل الطروحات، وتظهرت نيات دولة العدو بالربط بين مسار الترسيم البحري، خط «العوامات الأزرق» الذي تتمسك به، بالترسيم البري كأن الأخير غير منجز!
ما طرحته إسرائيل، التي ابتلعت التنازل الرسمي عن 1800 كلم مربع من المنطقة الاقتصادية الخالصة، هو مقايضة شكلية تمكّنها من قضم مزيد من الأراضي اللبنانية: مقابل «حقل قانا» يتم تعديل الحدود البرية، بدءاً من رأس الناقورة والمعروفة برمز B1، ما سيعني نسف الخط الأزرق الذي تم ترسيمه عام 2000 والتخلي عن النقاط الـ13 العالقة التي يطالب بها لبنان! وهذا بالضبط ما كان الباحث والمؤرخ عصام خليفة قد حذر منه، منبهاً أن العدو سيبتلع التنازل الخطير ويعدّه قاعدة لإعادة النظر في الحدود البرية!
ما يجري بشأن ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل هو النتيجة المتوقعة لأداء متسلطين خلطوا بين مصالحهم الضيقة والشأن الوطني... وضعوا جانباً كل المرتكزات القانونية للتفاوض، وضربوا عرض الحائط بكل الاعتبارات التقنية، وأبعدوا فريق التفاوض الذي يضم نخبة من أهل العلم والحجة والمعرفة، وأحلوا مكانه سماسرة صغاراً فاسدين في القضية الأخطر. تجاهلوا السيادة وموجبات التمسك بها، قفزوا فوق الدستور، وانحدروا من جولة تفاوضٍ إلى أخرى إلى «بازارات سرّية خاسرة» وفق النائب ميشال الدويهي، والأنكى تطاولوا باستهداف فريق التفاوض وراحوا يزوّقون «إيجابيات»، يعرفون قبل سواهم أنها وهمية، مرتاحين لجوٍّ عممه أطراف «المخطط البونزي» عن الثروة التي ستهطل عليهم!
التجربة المريرة تقول إن هذه القضية ليست ملكاً لجهات التفاوض، بل تعني كل اللبنانيين، وكما كانت باكورة النشاط التشريعي لنواب الثورة طرح مشروع قانون يفرض التمسك بالخط 29، كخط الحدود والحقوق، فإن تكتل نواب التغيير مطالب بالعمل على استعادة هذا الملف، وإعادة طرحه على المجلس النيابي، لأن التعاطي انطلاقاً من المصلحة الوطنية يوفر إمكانية انتشال البلد وانتشال اللبنانيين.