د. ياسر عبد العزيز
TT

كيف تُسهل «السوشيال ميديا» التأقلم مع الفاشية؟

يثير الصعود المُطَّرد للجماعات الفاشية والمتطرفة، سواءً كانت ذات إسناد ديني أو قومي أو عنصري، الكثير من التساؤلات عن الأسباب التي أدت إلى رفدها بأسباب الانتشار والقدرة على كسب الأتباع، رغم التهافت الظاهر في خطابها وبراهينها، ورغم شيوع الخطابات الداعمة للعقلانية والتسامح والتعايش المشترك.
يعود الاهتمام الكبير بدراسة تلك الظاهرة، ومحاولة إيجاد الطرق المناسبة للتصدي لها، إلى خطورتها المؤكدة والمتفاقمة؛ إذ يتعزز الاعتقاد بأن انتظام تلك الجماعات في وتيرة الصعود الحالية يمكن أن يؤدي إلى تعميق الأزمات العالمية، وتقويض الديمقراطية، وتعزيز السلوك الإرهابي، وخلق أجواء صدامية داخل الدول وبينها.
لم يكن من الصعب إيجاد الرابط بين ذلك الصعود المُطَّرد للجماعات الفاشية والعصائب المتطرفة من جهة، وبين آليات نفسية واجتماعية تستخدم تجليات الإقناع والتأثير، ضمن منظومة تم الاصطلاح على تسميتها «غسل الأدمغة»، من جهة أخرى.
ومصطلح «غسل الأدمغة» لم يكن معروفاً قبل الخمسينات الفائتة، وسيعود الفضل في إدراكه إلى الحرب الكورية، حين وجد باحثون أميركيون أن الكثير من مواطنيهم الجنود الذين أُسِروا في معسكرات يديرها الصينيون الشيوعيون باتوا أكثر مطاوعة لآسريهم، وأكثر تعاوناً معهم، بل أكثر استجابةً لطلبات إفشاء الأسرار العسكرية، وأيضاً أكثر وشايةً بزملائهم الذين يفكّرون بالهرب.
يقول روبرت سيالديني في كتابه المهم «علم نفس الإقناع»، إن باحثاً أميركياً مرموقاً يدعى إدغار شاين اهتم كثيراً بتحليل سلوك المطاوعة العجيب الذي بات عليه الأسرى الأميركيون في معسكرات الصينيين في مقابل نزعة الاستقلالية والمقاومة والتمرد التي ظهرت من نظرائهم في المعسكرات الأخرى أو في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
ولقد توصل شاين إلى التفسير المنطقي لذلك التغير المثير، إذ اكتشف أن الأسرى الأميركيين خضعوا إلى برنامج فعال وناجح اسمه «برنامج غرس العقيدة». وبسبب خضوعهم هذا، حقق الصينيون أهدافهم كاملة حيال الأسرى الأميركيين، واستطاعوا تفتيت لُحمتهم، والنَّيل منهم، وتجنيدهم للوشاية بعضهم ببعض، وأخيراً... إضعاف عقيدتهم العسكرية، وزعزعة ولائهم الوطني.
لقد قام القادة الصينيون في معسكرات الأَسْر باستخدام وسيلة ناجعة لـ«غسل أدمغة» الجنود الأميركيين، فعلى سبيل المثال، كان يُطلب من الأسرى أن يجيبوا عن تساؤلات من نوع: «هل الولايات المتحدة مثالية؟»، «ألا ترتكب الولايات المتحدة أخطاء؟»، «هل الشيوعية شر مستطير، أم أن بها جوانب إيجابية؟»، «هل لديكم في الولايات المتحدة بطالة؟»، «أليست معدلات البطالة أقل في البلدان الشيوعية؟». وعبر الإجابات المتكررة عن هذه الأسئلة وما يشبهها، راحت عقائد الأسرى الأميركيين تتشكل، وتتخذ الاتجاه المرغوب لدى آسريهم.
عندما يعيش «الأسير» في فضاء اتصالي لا يركّز إلا على مثالب طرف ما، ولا يوفّر معلومات بخصوص طرف آخر إلا لو كانت إيجابية، فإن توجهاته تتغير، ومع الوقت سيعتنق عقيدة جديدة، وربما تتبدل هويته، وهو أمر ربما يتكرّر الآن لكن خارج معسكرات الاعتقال.
وفي العام 2018 ستقدم دراسة سويدية مُهمة دليلاً واضحاً على صحة تلك الفرضية، عندما سيشارك باحثون من ثلاث جامعات مرموقة، في تحليل 700 ألف تدوينة، لقرابة 12 ألف شخص، في منتديات متطرفة على «الإنترنت»، وقد تبين أن الأعضاء الجدد في هذه المنتديات يتبنون المواقف المتطرفة ذاتها بعد ستة أشهر من انضمامهم إليها.
وعندما أراد هؤلاء الباحثون إيجاد الدليل على نجاح عملية «غسل الدماغ» لأيٍّ من المبحوثين لم يجدوا أفضل من استخدامه تعبير «نحن» بدلاً من «أنا»، ولذلك، فقد كان عنوان الدراسة على النحو التالي: «من أنا إلى نحن... تشكيل المجموعات والتأقلم في منتديات ذات توجهات فاشية».
ستأتي الباحثة في علم اجتماع الإنترنت، بجامعة هارفارد، جوان دونوفان، لاحقاً، لتقول إن الخوارزميات التي تستخدمها وسائط «التواصل الاجتماعي» لديها قدرات كبيرة على إشاعة الخطابات الحادة والمتطرفة وترويج المعلومات المُضللة، ولتحذر من أن «تكلفة عدم القيام بجهود للحد من هذا التأثير هي نهاية الديمقراطية».
والواقع أن نظام الخوارزميات الذي يسهّل الأعمال لوسائط «التواصل الاجتماعي»، ويعزز نفاذها وتأثيرها، جدير بالاهتمام، لأنه ببساطة يفهم سلوك المستخدم، ويحفظ اختياراته وتفضيلاته. ثم يُمعن في عرض ما يتفق معها عليه، ويُبعده بقدر الإمكان عن مطالعة المُغاير والناقد لها؛ بحيث يخلق عالماً موازياً له، لا يسمع فيه أو يقرأ أو يرى إلا ما يناسب ميولاً معينة ويطرح حججاً وأسانيد تكرسها.
ولذلك، فسيمكننا أن نلجأ إلى قصة بعض «الأسرى» الأميركيين في معسكرات الصينيين، غداة الحرب الكورية، وما طرأ عليهم من تحولات قادت إلى تبديل هويتهم، لكي نفهم بعض ما تفعله الخوارزميات على وسائط «التواصل الاجتماعي» في عالمنا اليوم.