فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

الصورة القاتمة!

يعيش في تركيا ولبنان أكبر عدد من اللاجئين السوريين في العالم، وتبدو صورة الوجود السوري في البلدين سوداء قاتمة، وهي في هذا ليست استمراراً لما كان عليه الوضع السيئ في السنوات العشر الماضية، بل إنها أكثر حلكة، والأخطر أنها تسير نحو الأسوأ في كل تفاصيلها، حسب المؤشرات الظاهرة، التي تؤكدها دراسات لمؤسسات دولية، وتقارير حقوقية وإعلامية، يجري تداولها عن حال اللاجئين في البلدين وفي العالم.
يعيش في البلدين نحو 5 ملايين سوري، وهم أقل بقليل من ربع سكان سوريا المقدر بنحو ثلاثة وعشرين مليوناً، قبل ثورة السوريين على نظام الأسد في عام 2011، وأغلب هؤلاء من سكان المناطق المجاورة لخط الحدود مع تركيا في الشمال والشمال الغربي، والخط الآخر مع لبنان على امتداد شرقه وشماله، وثمة كثير من الروابط تجمع بين سوريا والجارين، وتصل بين السوريين وكل من الأتراك واللبنانيين على جانبي الحدود، وكلها أمور جعلت لبنان وتركيا مقصداً للباحثين عن ملجأ والهاربين من المقتلة، التي بدأها نظام الأسد ضد السوريين وتابعها بمساعدة قوى التطرف والإرهاب من دول تتقدمها إيران وميليشياتها، وقوى متطرفة تشمل «داعش» وتفريخات «القاعدة» وأخواتها.
إن حال اللاجئين في البلدين، لم تسر على نحو ما هو مأمول بسبب انسدادات القضية السورية، وامتداداتها الزمنية وتداعياتها، ما أطال فترة وجود اللاجئين وخلق ظروفاً وضغوطاً تحتاج إلى متابعة وحلول وقدرات مادية وإدارية متصاعدة في وقت يتضاءل فيه الاهتمام الدولي بالقضية عامة، وفي موضوع اللاجئين على نحو خاص، الأمر الذي دفع موضوع اللاجئين نحو تدهور عام.
غير أن تدهور أوضاع اللاجئين السوريين في تركيا ولبنان، لم يكن نتيجة لما أحاط بالقضية السورية من ظروف داخلية وخارجية فقط، بل كان في الأهم من جوانبه نتيجة عوامل محلية تتصل بواقع البلدين وتطورهما في السنوات العشر الماضية من جهة، وبواقع اللاجئين هناك الذين جسدوا الحلقة الأضعف في الحالتين، وكان يُلقى عليهم القسم الأكبر من المسؤولية عن سوء التداعيات السياسية الاقتصادية والاجتماعية.
أول وأهم العوامل التي أدت إلى تدهور أوضاع السوريين تمثله الظروف والتطورات السياسية في البلدين. ففي تركيا حدثت انقلابات سياسية مهمة في السنوات العشر الماضية، كانت بينها تطورات في داخل السلطة الحاكمة، التي يقودها حزب العدالة والتنمية؛ حيث غابت أجنحة وصعدت أخرى، بل إن مجموعة كانت مقربة من النظام معروفة باسم بمجموعة غولن، وهي حركة دينية اجتماعية يقودها فتح الله غولن، قادت عملية انقلابية فاشلة في عام 2016، وأدى التراجع في الوزن الشعبي الانتخابي لحزب العدالة والتنمية إلى انخراطه في تحالف مع بعض المعارضة، ومسايرة بعضها في السنوات الأخيرة، وحدثت متغيرات أيضاً في سياسة تركيا الخارجية بينها تغييرات مع أطراف فاعلة وأخرى وثيقة الاتصال بالموضوع السوري ومنها روسيا وإيران وبعض بلدان الخليج العربي ومصر.
ورغم أن بعض هذه التطورات، ليست ذات صلة مباشرة بالقضية السورية ووضع اللاجئين في تركيا، فإنها ذات تأثير - أحياناً بالغ - في البيئة السياسية التركية، التي يمثل اللاجئون السوريون أحد عناصرها الراهنة، وهو أمر أتاح لبعض أحزاب المعارضة، تصعيد موضوع اللاجئين ليصير في مستوى المنافسات والصراعات السياسية مع الحزب الحاكم، ودفع الحزب إلى مقاربات جديدة في التعامل مع اللاجئين ومنها طرح فكرة إعادة اللاجئين «الآمنة» إلى سوريا. وللحق فإن التطورات السياسية التي شهدها لبنان في السنوات العشر الماضية، وإن كان بعضها مختلفاً في أشكاله، إلا أنها متشابهة في مضمونها ومحتواها، وكثيراً ما كانت أكثر شدة في نتائجها، فأدت إلى تدهور أوضاع لبنان وسكانه وعلاقاته الإقليمية والدولية، ودفعت إلى عواصف وصراعات في بيئة الداخل اللبناني وتصعيد في علاقاته وروابطه مع نظام الأسد وإيران، وقد كانا السبب الرئيس ليس فقط في خراب لبنان، وإنما في وجود اللاجئين السوريين فيه، إذ يقول أركان الحكم اللبناني والمقربون منهم، إن اللاجئين بين أسباب الخراب في لبنان، ما جعلهم يواصلون منذ سنوات حملاتهم من أجل إعادة اللاجئين إلى سوريا وبالتنسيق مع نظام الأسد.
ومن البديهي القول إن التطورات السياسية التي شهدتها تركيا، وعاشها لبنان في العقد الماضي مع تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، تركت آثاراً مدمرة على اللاجئين في البلدين؛ حيث جرى تسييس وجودهما، وتم تحويله إلى ورقة في الصراعات الداخلية في البلدين، وصار اللاجئون المجموعة الأضعف التي يمكن أن تلصق بها الظواهر السيئة والمسيئة في البلدين، بدءاً من موضوع الإرهاب وصولاً إلى مخالفة العادات والتقاليد المحلية، بما فيها القول إنهم سبب الأزمات الاقتصادية وتدهور الأوضاع المعيشية، وكلها أمور سمحت بتصاعد نزعات عنصرية في مستويات الدولة ومؤسساتها الأمنية وفي أوساط اجتماعية بما فيها فئات كانت تدعم اللاجئين، بل هذا السياق دفع البعض إلى نبش أحقاد من التاريخ عن علاقات العرب والأتراك، وما ظهر من مشكلات في أواخر الحكم العثماني للمشرق العربي بداية القرن العشرين.
إن التجسيد العملي في ظاهرة معاداة اللاجئين، لا يظهر في السياسات التمييزية التي تمارسها السلطات الرسمية، وقطاعات من الجمهور، وتشمل تحديد أماكن الإقامة، وتقييد التنقل، وانخفاض الأجور وغياب الضمانات الاجتماعية، بل تمتد إلى ممارسة سياسات أمنية متشددة حتى في الظروف العادية، والسكوت عن الاعتداءات على اللاجئين وممتلكاتهم وحرمات بيوتهم، وحملات الاعتقال التي وصلت في لبنان للقتل تحت التعذيب، وممارسة سياسة ترحيل إلى مناطق سيطرة النظام يقوم بها اللبنانيون، ومثلها ترحيل إلى مناطق السيطرة التركية في شمال غربي سوريا.
من البديهي القول إن أغلب السياسات والإجراءات التي تنتهك حقوق اللاجئين في تركيا ولبنان وبلدان أخرى غير إنسانية، ولا تتوافق مع القوانين والاتفاقيات الدولية، بل إنها لا تتوافق مع القوانين الوطنية، لأن واحدة من الدول التي يقيم فيها اللاجئون، لا يمكنها تبني قوانين عنصرية أو تمييزية ذات طبيعة فاضحة. إن روابط السوريين، خصوصاً مع تركيا ولبنان الجارين، روابط عميقة غير قابلة للانفكاك، وهناك كثير من المصالح المشتركة، لا يمكن تجاوزها أو تغييبها، ولن تكون لها نهاية، وموضوع اللاجئين وإنْ طال فإنه موضوع مؤقت، لا ينبغي أن يكون عامل تخريب في علاقات السوريين مع البلدين والشعبين، وهذا بعض ما يفرض ذهاباً تركياً ولبنانياً لسياسات ومعالجات أكثر توازناً في الموضوع، تكلفتها أقل بكثير من تكلفة ما يجري حالياً، مولداً الصورة القاتمة، التي تزداد وحشية.