د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

محاكاة التطور

تعلم البريطانيون من الهولنديين أصول التمويل الحديث، فصار في مقدورهم اقتراض أموال هائلة من التجار وأفراد الشعب ابتداء من عام 1688م، على شكل سندات، مكنتهم من تمويل مشروعات تجارية عملاقة خارجية. فللهولنديين الفضل بأن نقل عنهم البريطانيون فكرة «سوق الأسهم»؛ حيث كانت تتبادل فيها السندات. وخرج بنك إنجلترا المركزي عام 1694م من رحم فكرة بنك هولندا الذي سبق الإنجليز بنحو 85 عاماً. فعندما كان الهولنديون يمخرون عباب البحر، كان الإنجليز يتطلعون إلى هذا الدور الريادي في التجارة الذي كان خلفه مقدرة تمويلية هائلة، مكَّنت الهولنديين من إدارة تجارة التوابل في العالم حتى وصلت سفنهم إلى أقاصي بلاد الهند وآسيا.
غير أن البريطانيين استفادوا من جيرانهم، فطوروا نظام التمويل العام عبر أسواق طرحت فيها سندات طويلة الأجل بتكلفة محدودة. ومكَّن التمويل البلاد من توسيع رقعة وجودها التجاري في آسيا، وانتقلت من التوابل إلى الأقمشة التي كانت مهمة في ذلك الحين، ثم اتجهت نحو غيرها من الصناعات، كمواصلة صناعة السفن والمعدات الحربية التي عززت من نفوذ البلاد، حسبما ذكر المؤرخ الشهير نيال فيرغسون في كتابه «إمبراطورية».
‏في مسألة الشعوب، يصعب أن ترد الفضل لأصحابه، لصعوبة تتبع من تعلم ممَّن، ومن كانت له الريادة الحقيقية منذ بدء الخليقة. غير أن العصر الحديث كشف لنا بوضوح وبالأدلة، كيف استفادت الشعوب من تطور أصحاب الريادة الحديثة.
فإدارة الجودة التي نرى شواهد إتقانها في كل منتجات وخدمات الكرة الأرضية، تعود إلى العالم فريدريك تايلور «أبي الإدارة العلمية» الذي كان شغله الشاغل كيف يضمن المرء استمرارية جودة أدائه، بإدخال الأرقام والعلوم إلى الإدارة. والجودة في جوهرها نابعة من فكرة «المعلم» أو صاحب الصنعة الماهر الذي يصعب أن نتتبع جذوره منذ فجر التاريخ. ولذلك جاء في الحديث النبوي: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه». فالجودة تدور في فلك الإتقان.
وقد كان لليابانيين الفضل على الأميركيين بأنهم قد حلَّقوا إلى آفاق جديدة من الجودة. فإذا كان الأميركيون حريصين على أن يكون المنتج النهائي في حدود «المواصفات المطلوبة» من الجودة، فإن اليابانيين قد جاءوا بفكرة أعمق، فحواها أنه «كلما بعدت عن الهدف (target) تقل الجودة». ولذلك تلاحظ أن احتمالية فشل منتجاتهم في الوصول إلى الجودة أقل من غيرهم؛ لأنهم يسعون نحو إبعاد النتائج النهائية بقدر الإمكان عن الاقتراب من المواصفات المطلوبة، أي أنهم يتطلعون إلى ما هو أفضل بكثير من المواصفات المطلوبة، بحسب أستاذ الهندسة الصناعية بجامعة الكويت، الدكتور طارق عبد المحسن الدويسان. ولذلك انتشرت فكرة «6 سيغما»، وهي محاولة دقيقة لتحديد العيوب وتقليصها إلى أقصى حد.
وقد سبق أن قلد الغرب العرب في مفهوم الجامعة في العصر الأندلسي، وقلد الأميركيون البريطانيين في طريقة إدارة بعض العقارات ووسائل النقل، وتعلمت الشعوب من عناية الفرنسيين بالآثار والفنون، وتعلم العالم من جودة الماكينة الألمانية، وبدأ الغرب يقف تحية وإعجاباً لمنتجات شركات آسيوية من شدة تطورها وإبداعها، ولنا في «سامسونغ» خير مثال. وتعلمت الشعوب من غيرها كيف تطور نظامها التعليمي، وكيف تقيِّم مخرجاته، وكيف نقيس بمؤشرات الأداء (KPI) دقة تحقيقنا للأهداف.
إذن، ليس عيباً أن تحاكي أو تقلد المتطورين في العالم؛ لكن العيب أن يبقى الأفراد والمؤسسات لعقود من دون محاولة جادة لتطوير أنفسهم في ميادين المنافسة التعليمية، والاقتصادية، والإدارية، والصناعية، والفنية، وغيرها.