جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

ليبيا: أما لهذا الليل من آخر؟

الاختلافُ بين المدن في شتّى بقاع العالم، ليس محل خلاف بين عاقلين. فالمدنُ لا تتشابه، حتى وإن تجاورت وتشاركت في العديد من السِمات والمظاهر. إذ لا بد أن يبرز ناتئاً ما بينها من اختلافات تميّز واحدة عن أخرى. أحياناً، تكون نسبة الاختلاف تلك ضئيلة، كالتي تميز حمامة عن يمامة، ولا تبدو إلا للمدقق والباحث والعارف. وأحياناً، تتسع الفجوة. إلا أن تلك الفروقات على اختلاف نسبها تتلاشى فجأة، في الأوقات التي تفقد فيها الأمم بوصلاتها، حين يلجأ أهلها للسلاح لحلّ خلافاتهم. وتنقلب حياتهم رأساً على عقب. تتحول أحياء وشوارع وميادين مدنهم إلى ساحات معارك حربية. ويحلّ الخلاف محل الوفاق، ويستفحل الدمار. في تلك الحالات، يفقد الاختلاف بين المدن خاصيته، وتصير متشابهة في الخراب والرعب. وعلى سبيل المثال، تصير العاصمة الأوكرانية كييف مثل العاصمة الليبية طرابلس.
الحروبُ، والأهلية منها على وجه الخصوص، تدفع بالمدن إلى نزع أثواب الرضا، وارتداء أثواب الحداد. وربما لذلك السبب، حرص الناس، من قديم الزمان، على تجنّب زيارة مدينة تخلت عن ميثاق سلامها مع نفسها.
لكن في مرّات قليلة، ونتيجة ظروف قاهرة، لا يجد المرء بُداً من تجاهل ذلك التقليد الموروث، عَملاً بالمثل القائل: مُجبرٌ أخاكَ لا بطل. وقد يتذكر ذلك زائر مثلي، حلّ مؤخراً بالعاصمة الليبية طرابلس مضطراً، وبعد يوم واحد فقط، من نهاية ما صار يعرف باسم السبت الدامي، حيث عاشت طرابلس وأهلها واحدة من أسوأ فترات الصراع العنيف والمتواصل على السلطة والثروة منذ عام 2011، بين مختلف الجماعات المسلحة.
المعاركُ الأخيرة ابتدأت ليلة السبت الموافق 27 أغسطس (آب) المنقضي، ولم تتوقف إلا قرب نهاية اليوم التالي. الأحياءُ المكتظة سكانياً، في وسط المدينة، كانت ساحات لمعارك دامية وضارية، استخدمت فيها مختلف أنواع الأسلحة. أكثر ضحاياها كانوا من المدنيين. وأغلبهم قتلوا داخل جدران بيوتهم.
منذ لحظة وصولي إلى المدينة، صباح الثلاثاء الماضي، حرصتُ على زيارة ساحات المعارك. وهالني ما رأيتُ من هول ودمار. بيوت بطوابق عديدة أتت عليها نيران القذائف وأحالتها خراباً، وأصبح أهلها في عداد المتشردين. عشرات السيارات في الأزقة والشوارع وقد تحولت إلى خردة محترقة. أثار الرصاص والقذائف على جدران المباني. ورائحة البارود والحرائق ما زالت عالقة في الجو. فداحة الحزن والثكل والغضب والإحباط تبدو طافحة في عيون الناس، من شدة ما ألم بهم من رعب، في صراع مسلح لا ناقة لهم فيه ولا جمل.
المعاركُ الأخيرة قلّصت من عدد الجماعات المسلحة. الكتائب المعروفة باسم ثوار طرابلس والأخرى المعروفة باسم النواصي فقدت مقراتها وآلياتها، وصارت أثراً بعد عين. طرابلس حالياً تحت سيطرة قوتين عسكريتين: قوة الردع وقوة جهاز دعم الاستقرار. الأولى تحت قيادة سلفية التوجه دينياً، وبمشروع سياسي سلفي. والثانية خارج الأطر المذهبية والآيديولوجية، وبمثابة مشروع فردي شخصي، وأضحت رقماً صعباً في معادلة الصراع على السلطة. هذه الاختلافات بين قيادتي القوتين تجعل إمكانية الاقتتال بينهما احتمالاً وارداً مستقبلاً، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، من الممكن القول إن حجم القوتين عسكرياً قد يكون بمثابة رادع يحول دون اشتباكها، لأن حدوثه سيكون كارثة، ليس فقط على العاصمة طرابلس، بل على كل ليبيا ومستقبلها.
رئيس حكومة الوحدة الوطنية ووزير الدفاع السيد عبد الحميد الدبيبة أصدر، بعد توقف المعارك، أوامره إلى النائب العام العسكري بالقبض على المتسببين في المعركة الأخيرة. كما أصدر قراراً بإخراج كل المعسكرات التابعة للجماعات المسلحة من العاصمة.
لا أحد يراهن على أن تلك القرارات ستجد طريقها إلى التنفيذ. ولا أحد يصدق أن حكومة بلا أنياب، رهينة في أيدي قادة القوتين المذكورتين، قادرة على إجبار جماعات مسلحة على فعل أي شيء، دع عنك تركها مقراتها ومعسكراتها في العاصمة. الغريب في الأمر أن أغلب الحكومات الليبية السابقة تحرص على تعويض الجماعات المتصارعة عن خساراتها في الحروب ما بينها، وتتجاهل تعويض الضحايا من المدنيين.
تجربة السنوات الماضية برهنت أن قادة الجماعات المسلحة، غرباً وشرقاً وجنوباً، فوق القانون وفوق الدولة. ولم يسبق مطلقاً أن قامت أي حكومة بمحاكمة قادة جماعات مسلحة على جرائم ارتكبوها. فما الذي استجد ليجعل الأمر مختلفاً هذه المرّة؟
ليس أسهل على أهل السياسة من الوقوف أمام كاميرات تصوير تلفزية، وتقديم وعود إلى مواطنين تشتعل صدورهم غضباً، بغرض امتصاص نقمتهم، وفي اليوم التالي، يلقون بتلك الوعود وراءهم، ويعودون إلى ممارسة أدوارهم، وكأن لا شيء حدث. نظرة واحدة على ما يحدث في ليبيا منذ عقد من الزمن، كافية جداً لتوضيح تفاصيل عمق مأساة يعاني ويلاتها ويدفع أثمانها 6 ملايين مواطن، تحت أنظار العالم وأسماعه.