د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

فتح التاريخ الأميركي

أرجو أن تكون «مذكرات جاريد كوشنر» ترجمةً صحيحةً لعنوان Breaking History، طالما أن الترجمة الحرفية سوف تعني «كسر التاريخ». وهذه أبعد ما تكون عن مضمون ما ورد في الكتاب الذي ربما سوف يقف في طليعة الكتب عن «فض أختام أو أقفال» إدارة أميركية لم يحط بها أثناء وجودها في البيت الأبيض، أو بعد رحيلها عنه، سوى التطرف في الحكم. فربما كانت إدارة دونالد ترمب أكثر من كتب عن رئيس أثناء وجوده في السلطة؛ والأكثر ممن خرجوا على طاعته وساهموا في رسم صورة لرئيس غير قادر على الرئاسة.
جاء ذلك من محاميه، ومن معاونيه، ومن المقربين منه، ومن صحافيين مثل بوب ودورد الذي نقل عنه وعن مصادر البيت الأبيض ما يجعل رئيس الولايات المتحدة دونالد ترمب يتراوح ما بين المختل والمافيوزو (زعيم المافيا) والعنصري الأبيض عديم الكفاءة والمعادي للمؤسسات الأميركية والمتهجم على النساء. في الجانب المقابل، أصبح ترمب «زعيماً» جماهيرياً، تندفع الجماهير نحو لقاءاته وحملاته الانتخابية، كما لم يحدث لرئيس أو مرشح في التاريخ الأميركي المعاصر. وفي سبيله تلقفت هذه الجماهير حجته عن تزوير الانتخابات الأميركية، ليس فقط بالتصديق، وإنما أكثر من ذلك بالاستعداد للهجوم على مبنى الكونغرس من أجل فرضه مرة أخرى على البيت الأبيض. جاء التأييد من عصبيات بيضاء، بعضها جرى وراءه دفعاً لما اعتقدوه من ظلم للبيض الأميركيين، والبعض الآخر لأنهم رأوا في المعسكر الديمقراطي المقابل رخاوة ليبرالية تسلم البلاد لغرباء جاءوا من كل حدب وصوب، والبعض الثالث رأى فيه رئيساً قوياً قادراً على الفعل والإنجاز.
كون «كوشنر» مستشاراً للرئيس، وقريباً منه شخصياً بفعل زواجه من ابنته «إيفانكا»، ووجوده الدائم في البيت الأبيض مسؤولاً عن كثير من الملفات الهامة، يعطي كتابه كثيراً من المصداقية. وقد صدرت المطبوعة بعد إقرار كليهما (جاريد وإيفانكا) بخطأ ترمب فيما يتعلق بنتيجة الانتخابات الأميركية التي أسفرت عن فوز جوزيف بايدن؛ حيث الحقيقة أولاً أن الانتخابات لم تزور؛ وثانياً أن القول بذلك يضعف من الديمقراطية الأميركية وصورة أميركا في العالم. الرسالة الرئيسية التي تفضّ كثيراً من الأختام الأميركية الذائعة، أن الرئيس ومعاونيه حققوا إنجازات رائعة سوف تحسب لهم على مرّ التاريخ، أولها الاتفاقيات التجارية التي عقدها وأعادت للأميركيين فوائد كبيرة؛ وثانيها النجاح بالتعاون مع الديمقراطيين في إصدار قانون لإصلاح نظام العدالة الجنائية؛ وثالثها إطلاق عملية «ووب سبيد» التي أنتجت اللقاح الذي بات حجر الزاوية في مقاومة «كوفيد 19»، ورابعها - وهو الأهم بالنسبة لنا في العالم العربي والشرق الأوسط - مناصرة الاتفاقيات الإبراهيمية لعقد اتفاقيات سلام بين إسرائيل و5 دول ذات أغلبية مسلمة، هي الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان وكوسوفو؛ ومعها خامساً المساهمة في حل الخلافات بين دول عربية ودولة قطر.
الكتاب فيه ما هو أكثر من ذلك من التفاصيل والحكي المصاحب لكتابات اليهود الأميركيين، التي تبدأ بالمأساة الإنسانية المروعة الكبرى للهولوكوست؛ حيث كان جده وجدته، وتنتهي بالدور القيادي في بناء الدولة الأميركية حيث كان والده ووالدته. ولكن ما يهم هنا هو أن المؤلف يحاول أن يظهر سجل ترمب كقائد فاعل في الدولة وتاريخها، ومهما كان الخلاف حول نتائج الانتخابات الماضية، فإن الباقي دائماً هو الانتخابات المقبلة. وهذه المرة، فإن هذه الانتخابات بدأت مبكرة للغاية، مع الانتخابات التمهيدية في الحزبين الجمهوري والديمقراطي، الخاصة بانتخابات التجديد النصفي لمجلسي الكونغرس، التي لعب فيها ترمب دوراً هاماً ظهر فيها كحكم في حزبه، ومصدر تهديد كبير للرئيس الحالي، وفقاً لاستطلاعات الرأي العام. نجح ترمب في إقصاء 10 من الجمهوريين في مجلس النواب، إما أثناء الانتخابات أو بالانسحاب منها، أو بالخروج من الحياة العامة، وكان آخرهم نجمة هامة من نجوم الحزب «ليز شيني» التي تزعمت الهجوم على ترمب في اللجنة التي شكّلها الكونغرس من أجل البحث في دور ترمب في أحداث 6 يناير (كانون الثاني) 2021 الذي يعتبر يوماً أسود في تاريخ أميركا وديمقراطيتها.
كل الشواهد تؤكد أن الرئيس ترمب سوف يسعى إلى الحصول على فترة رئاسية أخرى، وهو الرجل الذي كانت أيامه الأخيرة في الحكم غير تلك التي سادت بين الرؤساء الأميركيين، حينما خرجوا من البيت الأبيض، كما خرج الرئيس «جون آدامز» - الرئيس الثاني للولايات المتحدة بعد جورج واشنطن، الذي خرج بعد فترة رئاسية واحدة – غاضباً وناقماً على منافسه توماس جيفرسون حيث مضى إلى بلدته «بوسطن» في ولاية ماساشوستس دون مصافحة أو وداع. كانت الولايات المتحدة وقتها 13 ولاية، وعدد سكانها لا يتجاوز كثيراً 3 ملايين نسمة، ودولة بعيدة كثيراً عبر المحيط الأطلنطي عن العالم القديم. الآن صارت الدولة 50 ولاية، وعدد سكانها 330 مليوناً، وقائدة للعالم القديم والجديد أيضاً أو هكذا كانت حتى أصابها وباء «الكورونا» ودونالد ترمب.
واكبت الكتاب أحداث قيام 40 عنصراً من مكتب التحقيق الفيدرالي الأميركي باقتحام وتفتيش القصر المنيف للرئيس الأسبق ترمب في «مار أيه لاغو» بولاية فلوريدا، وحتى وقت كتابة هذا المقال لم يكن قد عُرفت نتيجة التفتيش، وماذا كانت أسبابه من الأصل، ولكن التعليقات حوله أشارت إلى أسباب تتعلق بنقل وثائق غير مصرح بحملها خارج البيت الأبيض؛ والبحث عن براهين لها علاقة بما فعله رئيس الولايات المتحدة أثناء أحداث 6 يناير 2020 الدامية، وكانت سبباً في اقتحام مبنى الكونغرس ومنعه من التصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهو أمر ضروري لتولي الرئيس بايدن منصبه. وأياً كانت الأسباب، فإن الرئيس نفسه جرى استدعاؤه للتحقيق من قبل الادعاء الأميركي (النيابة)، ووجّه 400 سؤال إليه كانت الإجابة بالرفض استناداً إلى التعديل الخامس للدستور الأميركي؛ الذي يعطي المتهم الحق في رفض الإجابة على السؤال إذا كان يخشى أن تدينه. وكلا الحدثين غير مسبوقين في التاريخ الأميركي. ومن الجدير بالذكر أن البيت الأبيض صرح بأنه ليست له علاقة بالحدثين؛ أما ترمب فقد أصرّ على أن كل الأمور «مسيسة» بغرض الوقوف في طريق وصوله إلى البيت الأبيض مرة أخرى.
القصد من هذا العرض أن نضع كتاب «فتح التاريخ» في سياقه القائم على وجود انقسام عميق في الحياة السياسية الأميركية لا يماثل الانقسامات السابقة، التي كان النظام السياسي منذ الحرب الأهلية الأميركية قادراً على تجاوزها. هذه المرة، فإن النظام ومؤسساته أمام اختبار الشرعية التي اهتزت كثيراً أثناء المعارك الجارية حول ما كان وما سوف يأتي. أميركا لم تعد كما كانت، ورغم أنه لا يمكن تجاهل مكانتها في العالم، فإن ما يظهر منها لا يمكن تجاهله هو الآخر.