د.سامح فـــوزي
كاتب مصري وباحث أكاديمي، مدير مركز دراسات التنمية بمكتبة الإسكندرية، وعضو مجلس الشورى المستقيل عن التيار المدني.
TT

حوارات واشنطن ذات طعم واحد

في «واشنطن» تكاد تسمع الحديث نفسه - أحيانا بالمفردات ذاتها - بشأن ما يحدث في مصر في كل لقاء مع باحث أو محلل أو تنفيذي في دوائر صنع القرار، بما في ذلك أكثر المؤسسات السياسية والأمنية تأثيرا.

تعددت لقاءات الوفد المصري الذي ضم برلمانيين سابقين، أحدهم من «الإخوان المسلمين» للمرة الأولى منذ أحداث 30 يونيو (حزيران)، والذي انشغل وحده بطرح قضية تجاوزها الساسة والباحثون والمحللون في «واشنطن»: هل ما حدث انقلاب أم ثورة؟ الذهنية الأميركية رأت أن ما يحدث من حسم على أرض الواقع يدفع إلى تجاوز السؤال، وطرح هواجس المستقبل مباشرة. منذ 30 يونيو وجد الأميركيون أنفسهم بحاجة إلى فهم ما يحدث. خيوط شتى، ومصالح متداخلة، دفعتهم في نهاية المطاف إلى الصمت عن «الوصف» و«التقييم»، مفضلين التعامل مع معطيات الواقع. في لقاء مع مسؤول في «البنتاغون» ذكر أن «مصر مهمة بالنسبة للولايات المتحدة. المؤكد أن عدد الاجتماعات، والاتصالات الهاتفية، والمدد الطويلة التي استغرقتها هذه الاتصالات بشأن تطورات المشهد في مصر، غير مسبوقة». وأضاف «الولايات المتحدة لديها أكثر من ثلاثين عاما من العلاقات الاستراتيجية مع مصر، وتعد العلاقة بين وزارتي الدفاع في البلدين حجر الزاوية في هذه العلاقات».

تخطت الدوائر الأميركية السؤال: انقلاب أم ثورة؟ وتحاول أن تنفي دائما تحيزها لـ«الإخوان المسلمين»، بالتأكيد على انفتاحها وتواصلها مع جميع الأطراف. وتشير باستمرار إلى أن نظام حكم الرئيس مرسي لم يلبِ طموحات الشعب المصري، وشهد تجاوزت عديدة، لم يستمع خلالها للنصائح الأميركية التي أسديت له بشأن إيجاد نظام سياسي استيعابي. دبلوماسي رفيع المستوى في الخارجية الأميركية قال لي «قدمت واشنطن نصائح للرئيس مرسي بشكل يومي سواء عن طريق الإدارة أو من خلال السفيرة الأميركية في القاهرة، بأن ينحاز إلى استيعاب المعارضة، لكنه لم يفعل لسببين؛ أنه لا يؤمن في الأساس بوجود نظام ديمقراطي استيعابي، ولشعوره بأن الأغلبية تصطف إلى جواره». وأضاف «كان مرسي ذكيا عندما أبرم اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، بالفعل ابتهجنا لذلك، لكن لا يعني ذلك موافقة مطلقة له على كل شيء. كنا نعلم أن الاتفاق يخدم مصالحه في المقام الأول لأنه كان حريصا على عدم نشوب حرب على حدوده». وكشف المسؤول الأميركي أنه «من المواقف التي استدعت دهشة الإدارة الأميركية البيان الذي أصدره عصام الحداد إبان أحداث الكاتدرائية المرقسية، وقال في بدايته إنه تجري تحقيقات، ثم اتهم الأقباط بأنهم وراء الأحداث، مما يوحي بأن نتائج التحقيق معروفة سلفا».

رغم إدراك أخطاء حكم «الإخوان المسلمين» في دوائر صناعة القرار، لا يخفي المراقب حالة الاهتمام الملحوظ التي تبديها الولايات المتحدة لهم، وسؤالها عن الرئيس المعزول محمد مرسي، وهو ما لم تفعله على الإطلاق مع مبارك. التفسير جاء على لسان أحد العاملين في الإدارة الأميركية بأن «مرسي كان منتخبا بينما مبارك لم يكن منتخبا». تفسير لا يشفي غليل أي باحث، لأن واشنطن لم تكن تعامل مبارك على أنه «مستبد»، ولم تكن أيضا تنظر إلى مرسي على أنه «رئيس لكل المصريين».

ما يشغل الدوائر الأميركية الآن هو «شروط المرحلة الانتقالية»، وأهمية أن تكون هذه هي آخر مرحلة انتقالية تعيشها مصر في تجربة التحول الديمقراطي. العبارة التي تتكرر على لسان كل مسؤول تقابله في «واشنطن» هي: كيف يمكن إنشاء نظام ديمقراطي استيعابي لا يقصي «الإخوان المسلمين»؟ وما فرص نجاح هذه المرحلة الانتقالية إن لم يشارك فيها «الإخوان المسلمون»؟ وهل من الأفضل أن يشاركوا الآن أم يشاركوا عقب الانتهاء منها؟

القضايا التي تتصل بالمستقبل كثيرة. قد تكون من بينها المعونة الأميركية لمصر، التي يتوقع أن تستمر، لكن مع اقتراح تعديلات على هيكلها وبنودها تتلاءم مع المتغيرات الجديدة التي تقضي بالتركيز على حماية الحدود من تدفق السلاح والإرهاب. وقد تتجه الولايات المتحدة، وحلفاؤها في أوروبا، إلى مطالبة الحكومة المصرية بالسعي قدما على طريق الحوار والمصالحة، وإدماج «الإخوان المسلمين» في العملية السياسية لضمان التعددية، وهو أمر سوف يرتطم حتما بالإجراءات القانونية التي يواجهها قيادات «الإخوان المسلمين» في قضايا جنائية، لا يمكن القفز عليها، خاصة بعد أن ألقي القبض عليهم، وأعلنت لوائح الاتهامات بحقهم، وينتظر المجتمع المحاكمة.

ومن جانبهم، يبدو أن «الإخوان المسلمين» يتمسكون بشرعية الرئيس المنتخب من دون تمسكهم بشخص الرئيس ذاته، ويرفضون شرعية الجماهير الهادرة، ويرون أن الحوار ينبغي أن يكون مع القيادات القابعة خلف القضبان بعد إطلاق سراحهم، ويعيدون طرح ذات المبادرات التي تجعل من الرئيس المعزول محمد مرسي طرفا في المشهد سواء من خلال إعلان تنحيه أو تفويض صلاحياته لشخصية توافقية، ويطرح البعض اسم محمد البرادعي، لكن ذلك لا يعني فقط خروجا على «خارطة الطريق» التي تتمسك بها الأطراف السياسية الأخرى، وتقوم عليها شرعية الحكم الحالي، وإنما أيضا إعادة تشكيل المرحلة الانتقالية بحيث يعود من خلالها «الإخوان المسلمون» إلى المشهد السياسي أملا في استعادة الحكم، وهو أمر مرفوض شعبيا، وهناك أصوات داخل جماعة «الإخوان المسلمين» ترى أن إعلانا صريحا من جانبها بعدم خوض انتخابات الرئاسة القادمة يهدئ كثيرا من التهاب المشهد السياسي.

الأسئلة كثيرة في «واشنطن»، تتكرر ذاتها من مؤسسة لأخرى، ومن محفل لآخر، ويتوقع أن تتطور ردود الفعل حسب مسار الأحداث، التي لا تزال تنكأ الإدارة الأميركية بأنها لم تكن طرفا في صناعة المشهد منذ البداية.