فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

اغتيال مرموق لإرهابي فاشل

في أواخر التسعينات روى لي صديق أنه كان في معسكر بقرية «قبة» قرب بريدة، وأنه التقى مجموعة من الشباب يتحدثون عن أن بيل كلينتون سيكون آخر رئيس للولايات المتحدة، لأن بن لادن قرر شن «الحرب الأممية» على «الصليبيين». ذلك المعسكر كان فيه تدريب على السلاح؛ جزء كبير من أولئك تفرقت بهم السبل، كانت أحلامهم أكبر من واقعهم. أحدهم ورد اسمه على قوائم المطلوبين وإما سُجن وإما قُتل.
الغليان كان مدعوماً من رموز «الصحوة»؛ مجالس وبيوت وندوات علنية لم تكن تستنكف من تأييد تنظيم «القاعدة» وبخاصة بعد تفجير سفارتي أميركا في نيروبي ودار السلام.
في تلك الفترة زرنا مع الزملاء أحد كبار رموز «الصحوة» في منزله بعد إفراج الحكومة عنه. كان الحديث عن بن لادن و«القاعدة» محل اعتزاز للجموع؛ وآية ذلك أن الحيوية لقيادات «الجهاد» كانت في أوجها ونار أفغانستان لم ترمد بعد، وآثار حرب الخليج أثقلت كواهل الحكومات لدرجة لم تعد تبصر دواخل الأوضار، وصغار التفاصيل.
احتكّ رموز «الصحوة» بمؤسسي «تنظيم القاعدة بالسعودية» بشكل كبير؛ لم يكن الخلاف جوهرياً وإنما على التوقيت والتكتيك. سمعت من رمز صحوي عن تكفيره للدولة، كان يبتسم ويقول إنه لن يكفّر الدولة علناً ولكنها كافرة برموزها وحكامها، لكنه سبّب عدم إعلانه بسببين اثنين؛ أولهما أن إعلان العداء للسلطة بهذه الطريقة فيه حماقة تعيد سيناريو مصر للسعودية، والآخر أنه قطع وعداً لمفتي البلاد السابق الشيخ الراحل عبد العزيز بن باز. وأذكر أنه حين هُزم منتخب السعودية من ألمانيا في نهائيات كأس العالم بثمانية مقابل صفر قيل لي إن الكل سجد شكراً لله على تلك الواقعة.
كان على أغلفة بعض المجلات صورة مؤسس وزعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن. لم يكن صيت أيمن الظواهري بادياً وعالياً لأن «لقاء السحاب» التاريخي بينه وبين بن لادن لم يكتمل على أوجه الفكري. بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) حدثت ضجة ضخمة بالتيار الديني بأكمله ولذلك ثلاثة أحداث:
أولها: حين حدث حريق بإحدى مدارس البنات في مكة، على أثرها دعم الراحل الملك عبد الله دمج رئاسة تعليم البنات مع وزارة التعليم؛ سارت جموع كثيفة من المتطرفين نحو المفتي العام، الغرض من ذلك رفض دمج المؤسستين لأن في ذلك اختلاطاً أو تهديداً بالاختلاط بين الفتيات والشباب. أحد قادة ذلك التحرك انضم لتنظيم «القاعدة» وطلبته الحكومة، وقيل إنه قُتل في العراق.
الثاني: صدور بيان «على أي أساس نتعايش» لمجموعة من رموز «الصحوة»، وعليه انتفض تنظيم «القاعدة» ضد البيان. كان الخلاف هذا أساس الاحتكاك بين سياسات «الصحوة» وسياسات «القاعدة». «القاعدة» وصفت البيان بأنه بيان من «الانبطاحيين» و«الصحوة» تقول إنه بيان لإيجاد توازن في العمل الإسلامي. وأذكر أن الأستاذ عبد الله بن بجاد العتيبي لديه ملف وثيقة حول كل السجال الذي دار حول ذلك البيان، وهو بيان غير متسامح وإنما متهالك ولكنه ميّز بين سياسات العمل الحركي. البيان صاغه مجموعة أمشاج من «الإخوان» والصحويين وبعض المفكرين.
الثالث: وهو الحدث الأهم تأسيس «تنظيم القاعدة بالسعودية»، بإشراف ودعم شخصي من أسامة بن لادن، وكان على رأس التنظيم يوسف العييري، الذي كتب رسالة مشهورة قال فيها: «نقول لإخواننا المسلمين في كل مكان، إن جريمتنا والله ليست أكثر من جهاد الصليبيين، فقد أقلقهم وقوفنا ضدهم في أفغانستان وغيرها، وهم يخشون أن نقف ضدهم في العراق وهذا ما فعلناه بفضل الله تعالى، فنحن نعلنها أننا لن نتراجع عن هذا الطريق، وسوف ننازل الصليبيين حتى النصر أو الشهادة، فلن تخيفنا هذه المؤامرات، ولن تريعنا هذه الأكاذيب، وسوف نمضي على طريق الجهاد وقد وضعنا رؤوسنا على أكفّنا ولبسنا أكفاننا وفارقنا الأهل والأولاد رغبةً بما عند الله تعالى، ونسأل الله أن يثبّتنا على هذا الطريق حتى نلقاه، ولكننا نطلب من إخواننا المسلمين أن يكونوا سنداً وعوناً لأهل الجهاد بكل وسيلة وسبيل، فاحذروا من الوشاية بهم، واحذروا من الإعانة عليهم، فمن فعل هذا فليعلم أنه مُعين للصليبيين على إخوانه المسلمين، وما أعظم جرم إعانة الكافر على المسلم، فاعلموا أن خصمنا هم الصليبيون، فهم من يطالب بنا منذ مدة أحياءً أو أمواتاً، فلا تكونوا دليلاً للصليبيين على أبنائكم وأهل دينكم، فما طالبوا بنا إلا لشعيرة الجهاد التي أقلقت راحتهم ونكدت عيشهم، وسنواصل الدرب شُمَّ الأنوف، لا نملّ ولا نكلّ بإذن الله تعالى».
لقد قام العييري بأعمال كارثية؛ وفتح أبواب جهنم. كنت أتجول بسيارتي في بريدة؛ واستغربت من تطويق حي «الإسكان» وهو حي جيد، قيل لي إن يوسف العييري قائد التنظيم بالسعودية هرب بحافلة خاصة بنقل البنات وإنه لبس عباءة نسائية؛ لكنه حين سرق سيارة بتهديد السلاح قُتل في شمال بريدة ودون مدينة حائل في عملية منظمة.
صوت الظواهري كان خافتاً، سمعناه بعد 11 سبتمبر. سطوة بن لادن وقوته غلبت على صيت الظواهري، صحيح أن بن لادن له نفوذ بين أتباعه وحافظ على تماسك التنظيم، وأسس لفروع عنيفة وشرسة، وطوق علاقات ممتدة مع دول مثل إيران تجولت بها أسرته وأهله ولاذ بها أصدقاؤه، ولكن جزءاً من تأسيس «آيديولوجيا القاعدة» وجزءاً من المؤثرين الفكريين على أسامة بن لادن هو أيمن الظواهري؛ ابن البيت البرجوازي، وابن حي المعادي، وابن البيت المتعلم، لقد كان المقنع الأبرز لأسامة بن لادن بتأسيس «القاعدة». كان بن لادن يدّعي التواضع وأنه لا يريد قيادة التنظيم، لكن حين دب الخلاف بين الظواهري «الكريه» -حسب وصف مجايليه- ضرب بن لادن على الطاولة وبايعه الظواهري وأبو حفص المصري وكل الآخرين.
اغتيال الظواهري بهذه العملية المرموقة يعطينا نهاية لشخص شرس فشل في قيادة التنظيم، وساهم في تصدعه. تلوثت يده بدماء الآخرين، عملية تعطينا الدرس كيف تطور التنظيم الدموي، وكيف تطورت التكنولوجيا العظيمة. إنها نهاية مهينة لشخص قاتل، وإن من المؤيدين للظواهري مَن يدّعون الحقوق والحريات يسكنون لندن وكندا وأميركا؛ أحد المؤيدين للظواهري يصف الكتّاب بـ«المجرمين»، لكن هؤلاء الشجعان لن يكفوا أبداً عن نقد الأصوليات، والعبرة بالنهايات لا بالبدايات.