محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

وباء المزايدة السياسية!

الشعبوية السياسية تصيب كل المجتمعات وتؤدي في الغالب إلى طرق مسدودة، بل إلى كوارث. بعض الشعوب لديها آليات نسبياً معقولة للخروج من الشعبوية المسمومة، وبعضها يغوص حتى الغرق في تلك الشعبوية. ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا المحافظ الأسبق، في مذكراته التي نشرت أواخر عام 2019، يقول لنا إنه لو عرف ماذا سيقود إليه الاستفتاء حول الخروج من الاتحاد الأوروبي، الذي وعد به لما وضعه على أجندته وهو يأسف أنه فعل ذلك. لقد ذهب السيد كاميرون إلى (شعبوية) رغبة في مغازلة الشارع كي يعطيه أغلبية مريحة، بلاده خسرت خسارة ضخمة، فقد تناول (الشعبويون) شعلة الخروج (بريكست) وركضوا بها إلى آخر الشوط. اليوم استطلاعات الرأي العام البريطاني تؤشر إلى أن هناك أغلبية نسبية ترى أن البقاء في الاتحاد كان أفضل لهم اقتصادياً مما هم عليه الآن! وكان الخبراء يقولون ذلك ولم يستمع لهم أحد.
من أفضل من ناقش الشعبوية وآثارها المدمرة في الفضاء السياسي العربي، وليس الوحيد، هو الكاتب العربي أمين معلوف في كتابه (غرق الحضارات)، وقد ناقش الفترة الناصرية التي كان مؤيداً لها، رغم تضرر عائلته التي كانت تعيش في مصر، ولكنه يرى أن عبد الناصر وقع في فخ (المزايدة) التي جعلته يذهب إلى حرب عام 1967 الكارثية من دون حسابات دقيقة، ومن ثم الهزيمة النكراء التي ألمت بالعرب ولم تقم لهم قائمة بعدها، وربما يحتاج إلى سنين للتغلب على آثارها؛ بعض ما يدفع اليوم من أثمان غالية في التنمية والتطور كانت جذوره في تلك الكارثة.
الشعبوية في صورتها الصارخة في فضاء الديمقراطيات الغربية كانت إبان عهد الرئيس دونالد ترمب... لقد كان فظاً في شعبويته، وأدت إلى كوارث في السياسة الداخلية والخارجية الأميركية لا يزال يعاني منها المجتمع الأميركي، ورغم وصول السيد جو بايدن الديمقراطي المفروض أنه النقيض، نرى أن الشعبوية لم تنتهِ، بل تخفت وراء شعارات فضفاضة ليس لها معنى على أرض الواقع، منها الحديث المكرر عن حقوق الإنسان من المنظور الشعبوي، ولاحقته تلك الشعبوية حتى في مؤتمره الصحافي الأول في أول يوم للزيارة، حيث ترك الصحافيون كل تلك القضايا الكبيرة والمصيرية التي نوقشت في الاجتماعات التاريخية، وتحدثوا عن قضايا مهما كانت قد تجاوزها الزمن.
وفي عشية الزيارة الرئاسية الأميركية إلى المملكة العربية السعودية، نشرت مقابلة تلفزيونية حصيفة مع رجل له خبرة لا يستهان بها في الشؤون الدولية، هو الأمير تركي الفيصل، مع محطة «سي إن بي إس»، حيث قال في تلك المقابلة بالإنجليزية كلاماً مقنعاً ومهماً، ومما قال بتصرف «إذا كان الموضوع حقوق الإنسان فإن الولايات المتحدة ليست منزهة عن اختراق ذلك الملف». وأردف على السيد بايدن أن «ينزل من على حصانه ويتعامل معنا من خلال المصالح المشتركة». طبعاً السياسة خيارات، وتتغير بتغير الظروف الناشئة على الساحة الدولية، وما تم في التحضير للزيارة وما دار داخل الاجتماعات هو ليس «انتصاراً للبعض وانكساراً للبعض الآخر»... ما هكذا تحسب الأمور، هي تحسب بالتكيف مع المستجدات، والسعي نحو تحقيق المصالح المرسلة للأطراف كافة.
الشعبوية يمكن أن نلحظ جزءاً منها في الحرب الروسية - الأوكرانية، فموسكو لأسباب مختلفة وجدت أن حشد الشعور القومي الروسي في مرحلة تنامت فيها المعارضة الداخلية، والتفتت وسائل الإعلام العالمية لحركة المعارضين في الداخل، وجدت (ربما جزئياً) أن شد العصب القومي بالذهاب إلى حرب (محدودة) في نظر من خطط إليها، إلا أنها شعبوية قد تؤدي إلى كوارث في الداخل الروسي، كما أدت إلى كوارث في عدد من الأصقاع العالمية حتى الآن.
قبل أيام من وصول السيد بايدن إلى الشرق الأوسط، وأثناء الزيارة، وبعدها بأيام، اندلعت شعبوية بغيضة في الكثير من وسائل الإعلام ووسائل الاتصال، وأراد كثير من (الجالسين في الظل) السعي إلى استثمار شعبوي لتفسير الزيارة، وإطعام البسطاء وربما الحمقى نوعاً من الفخار الزائف.
انطلق البعض ليقول عن (الانتصار) العربي على أميركا، وقولهم لا يعدو أن يكون دغدغة للمشاعر الجوعى للإثارة، فالزيارة كانت من أجل مصالح مشتركة، وليس من أجل تحديد من هو الغالب ومن هو المغلوب. الشعبوية قادت البعض، ومن يدعي أنه مراقب للساحة للقول كشاهد بترجيح الغلبة في هذا الملف (انظروا إلى طريقة استقبال بايدن في مطار جدة!) وركب على ذلك قصة لتمريرها على السذج والبسطاء (وهو يدس السم في الدسم) دليل على جهله المطبق في بروتوكول الزيارات. لقد كان السيد جو بايدن وفريقه، قبل أن يغادر أرض بلاده بأسابيع، يعرف على وجه الدقة من سوف يكون في الاستقبال وبالأسماء وبالتوقيت المضبوط. لقد بين المتخرصون ليس بشاعة جهلهم ولكن قبح حقدهم أيضاً، وهو ليس بالأمر الجديد، إنما المحزن أن مثل ذلك القول في المزايدة الفجة يجد آذاناً تصدق تلك الترهات، لأنها تريد أن تصدق، وذلك يأخذنا لأهمية بناء جدار من المناعة المعرفية لم نقم ببنائه حتى الآن!!
هذه القمة التي انتهت يوم السبت الماضي لها ما بعدها، ويتوجب أن تكون ملفاتها مؤسسية، فالعلاقة بالولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً لها أهمية في بناء السلم والتنمية، وهي شريكة في الكثير من القيم العامة، وفي زمن متغير ينذر بمخاطر دولية وإقليمية. الصراحة لها أولوية في النقاش، كما أن الاستمرار في السياسات المتفق عليها يتوجب احترامها. وإن أردنا أن نقيس مدى نجاح تلك الزيارة والقمم التي تمت في جدة علينا أن نتابع ما قاله ويفعله الإعلام الآخر المعادي. لقد حشدت إيران كل توابعها على الأرض وفي وسائل التواصل وفي المساجد لتسفيه الزيارة، واتخذت مزايداتهم فلسطين الذريعة الجاهزة لتسويق مقولاتهم، والادعاء بتحالف عسكري مع إسرائيل، وتضاعفت المزايدات التي صاحبت ذلك الملف لتمرير ما يرغبون في تمريره وقت عقد القمة، من ذلك الهجوم تعرف أن القمم قد حققت الكثير من تذويب الجليد، وتبدأ فترة أخرى مبنية على المصالح المشتركة وبناء الثقة.
آخر الكلام:
الإعلام المعادي أطلق أكاذيب وصدقها الجهلة، وعندما انفض النادي خرس الجميع!