د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

القيم والمصالح

«من المهم معرفة أن لكل دولة قيماً مختلفة يجب احترامها، ولو افترضنا أن الولايات المتحدة لن تتعامل إلا مع الدول التي تشاركها القيم والمبادئ 100 في المائة، فلن يبقى للولايات المتحدة من دول تتعامل معها سوى الناتو، لذا يجب علينا التعايش فيما بيننا على الرغم من الاختلافات التي نعيشها»، هذا ما ذكره ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في كلمته في قمة جدة للتنمية والأمن التي حضرها قادة دول الخليج ومصر والأردن والعراق، إضافةً إلى الرئيس الأميركي. هذه الكلمة كانت رسالة واضحة للرئيس الأميركي، مضمونها أن المصالح لا تُبنى على التشارك في القيم بكل حال، ولو كانت كذلك لما أقام الكثير من الدول شراكات استراتيجية مع دول أخرى.
ولعل أقرب مثال على هذا التعايش هو تطور العلاقات بين السعودية والصين، وهما دولتها تختلفان كلياً في الحضارة والثقافة، على الرغم من عراقة كل منهما. فالعلاقات السعودية - الصينية تطورت بفعل مساعٍ عالية المستوى بين البلدين، ففي عام 2006 زار الملك عبد الله، يرحمه الله، الصين في أول زيارة رسمية له بعد توليه الحكم، تلت هذه الزيارة عدة زيارات للرؤساء الصينيين للمملكة كان آخرها زيارة الرئيس الصيني (شي جينبينغ) للسعودية عام 2016. كما زار الملك سلمان، حفظه الله، الصين عام 2017، وتلا ذلك جولة ولي العهد السعودي في الصين عام 2019 والتي نتج عنها توقيع أكثر من 30 اتفاقية بقيمة زادت على 28 مليار دولار.
هذه الرغبة السياسية نتج عنها تطور مذهل في التبادل التجاري بين البلدين أسهم في ازدهار كلا البلدين. ففي عام 1995، لم يزد التبادل التجاري بين السعودية والصين على 1.3 مليار دولار، في وقت بلغ التبادل التجاري بين السعودية والولايات المتحدة أكثر من 13.5 مليار دولار. ومع ازدياد متانة العلاقة بين السعودية والصين، زاد التبادل التجاري بين البلدين ليصل إلى 15 مليار دولار قبيل زيارة الملك عبد الله يرحمه الله للصين عام 2006، ومع استمرار المساعي بين البلدين، زاد حجم التبادل التجاري بين السعودية والصين على مثيله بين السعودية والولايات المتحدة لأول مرة في عام 2011، واستمرت الصين أكبر شريك تجاري للمملكة منذ عام 2013 حتى اليوم. أثرُ الجهود عالية المستوى كان واضحاً في ازدهار هذه العلاقة، فحين زار الملك سلمان الصين عام 2017 كان التبادل التجاري قد بلغ نحو 48 مليار دولار، وفي عام 2019 (سنة زيارة ولي العهد السعودي للصين)، كان التبادل التجاري قد بلغ 73 مليار دولار!
هذه العلاقة توضح أن المملكة حريصة على بناء الجسور مع الدول الأخرى، وهو ما ذكره وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير في لقاء تلفزيوني على هامش القمة. فالمملكة منفتحة على العلاقات التجارية التي فيها مصلحة لها، وهي لا تفضل دولة على أخرى. فكما أن للمملكة علاقة تاريخية مع الولايات المتحدة تمثلت في شراكة استراتيجية على مستويات كثيرة، فإن الصين هي إحدى أهم أسواق الطاقة في العالم، والمملكة لديها استثمارات ضخمة هناك. والصين لا تلقي الدروس والمحاضرات حول القيم والمبادئ على شركائها من الدول في كل مناسبة كما تفعل الولايات المتحدة، ولذلك فهي تمكنت من بناء شراكات استراتيجية مبنية على الاحترام والمصالح المتبادلة، دون أي فرض لقيم أو مبادئ من طرف واحد.
إن زمن المحاضرات والدروس الأميركية قد انتهى، وموقف الرئيس الأميركي الحالي لا يسمح له بتحديد الشراكات التي تقوم بها دول المنطقة سواء مع الصين أو روسيا، فهذه الدول تبحث عن مصالحها بشكل صريح، وهي دول ذات سيادة لا يمكن أن تقبل إملاءات من دول أخرى، لا سيما أن الولايات المتحدة نفسها لم توضح موقفها خلال السنوات الماضية تجاه التزاماتها في المنطقة، كأنها تحسب أن هذه الدول لن توجِد لأنفسها خيارات وشراكات استراتيجية. ويبدو أن أميركا قد أدركت هذه الحقيقة مؤخراً، وهي أن العالم لن يقف بانتظارها، بل سيمضي قدماً نحو ما يحقق له الازدهار والرخاء، ولذلك، فهي عادت الآن للمنطقة، مؤكدةً أنها ما زالت موجودة، وأنها ستملأ مكانها ولن تتركه لغيرها، والزمن كفيل بإثبات ذلك.