رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

سياسات الحكمة وسياسات المسؤولية

منذ أسابيع وأنا أهمّ بكتابة مقالةٍ بهذا العنوان؛ فقد كنت أُلقي على طلابي بجامعة محمد بن زايد في أبوظبي محاضرة في التصورات الفلسفية للسياسي ورجل الدولة؛ عندما كان إسماعيل هنية يزور لبنان بعناية حسن نصر الله ورعايته. والمعروف أنّ أقدم الكتب في السياسي محاورة أفلاطون بهذا الاسم. وقد اشتهرت حديثاً محاضرة ماكس فيبر عام 2019 عن السياسة باعتبارها حرفة أو مهنة. وإلى ذلك اشتهرت رسالة ريتشارد سينيت أستاذ العلوم السياسية الأميركي عن رجل العمل العام في السبعينات من القرن الماضي. لماذا ذكّرني إسماعيل هنية وصاحبه بماكس فيبر؟ لأنّ شغل سوسيولوجي السياسة الكبير الشاغل كان وضع توصيف للعالم والسياسي يقوم على ركنين: الاحتراف أو التفرغ - والرسالة ذات الشقين: أخلاق الاقتناع أو الاعتقاد، وأخلاق المسؤولية. والأولوية بالنسبة للسياسي في أخلاق الاقتناع حفظ حياة مواطنيه ومصالحهم. أما أخلاق المسؤولية فتقتضي انتهاج أفضل السبل بحسب القدرة والإمكانات لتحقيق ذلك.
ولنعد إلى إسماعيل هنية وحسن نصر الله. والمعروف أنّ الأول صار يعمل عند الثاني منذ مدة. أين هي الأخلاق من النوعين لدى الرجلين السياسيين، وأحدهما يتحكم بلبنان، والآخر يتحكم هو وحزبه بقطاع غزة؟ أين عملا على صون الأرواح أو على تحقيق المصالح الوطنية؟ إنّ المثير والمزعج سماع إسماعيل هنية وهو يتحدث عن المقاومة والتحرير وهو يعلم أنه لا يقوم بشيء من ذلك. حسن نصر الله ينفذ ما يطلبه الإيرانيون وعلى ذلك ربّوه وكبّروه. فماذا يستفيد هنية غير بعض العدة التي صار يستخدمها تبعاً لحاجة الإيرانيين. وهذا وذاك ونحن نتحدث عن حركتين دينيتين وحفظ النفوس هو أعلى مقاصد الشريعة؛ بينما الذي يحصل هو هدر دماء الفلسطينيين واللبنانيين ومصالحهم! وهذه المهنة: مهنة التبعية والهدر؛ ليست جديدة عليهما؛ بل هما باعتبارهما حزبيين عقائديين يقومان بهذا السفك والهدر أو التسبب فيهما عن اقتناع من عشرات السنين!
وإذا لم يكن منتظراً من زعيمين لحركتين مسلحتين غير ما وصلا إليه؛ فليس الأمر كذلك في حالة تونس. تونس بلد الحركة التحريرية الناجحة. صعد الإسلاميون فيه كما صعدوا في غيره. ولم تنجح سنواتٌ عشر في إخراج البلاد من المستنقع، وبدأ الناس يترحمون على عهد زين العابدين. طيب، رئيس الجمهورية اعتبر حركة النهضة متآمرة فعطَّل البرلمان ثم حله وأعفى الحكومة ثم ضرب الجهاز القضائي ثم عمد إلى تغيير الدستور ليجري استفتاءً عليه ثم ليجري انتخابات بعد ذلك. لقد ضاعت سنتان. وها هم التونسيون المدعوون للاستفتاء على الدستور يتفاجأون بأنّ رئيس اللجنة التي وضعته يقول إنه لا علاقة له بالنص الذي أعلن عنه رئيس الجمهورية وعرضه للاستفتاء! تخبطٌ ما بعده تخبط، وتضييع للثقة والمؤسسات، وكانت البلاد مصابةً بنهضةٍ واحدة، فصارت مصابةً بوهادٍ مزلزلة! ومهما فكرنا لن نستطيع أن نجد سبباً معقولاً لكل هذه التصرفات العشوائية والبائسة. وهذا الكلام ليس من عندي، بل من عند مفاوضي صندوق النقد الدولي الذين أتوا لمساعدة تونس المديونة التي توشك أن تلتحق في إفلاسها بلبنان إنما الفرق أنه في لبنان الحزب المسلح والرئيس المجنح (وهو اسم لصاروخ روسي لا أعرف لِمَ سُمي بذلك، وإنما أعجبني السجع!)، أما في تونس فالرئيس المصفَّح وحده!
إنما الداعي المباشر لكتابة المقالة عن نقائض أخلاق وسياسات الرسالة والمسؤولية في العالم العربي؛ فكان ما حدث قبل أيام قليلة في السودان. لقد ألقى رئيس المجلس العسكري الفريق عبد الفتاح البرهان خطاباً تراجع فيه ظاهراً عن معظم ما عمله انقلابه في يوليو (تموز) قبل عام! لقد جاء ذلك طبعاً على خلفية استمرار المظاهرات الحاشدة وموت عشرات إن لم يكن مئات الناس. وعودة الاضطراب والقتل والتهجير إلى دارفور. وتجدد النزاع على الحدود مع إثيوبيا. وإلى ذلك هناك الأزمة الاقتصادية الخانقة. وخسارة خمسة مليارات دولار من المعونات الموقوفة بسبب الانقلاب. البرهان أظهر أنه لا يريد شيئاً، وأن على المدنيين الاتفاق على إنشاء حكومة، تحدد موعداً للانتخابات. والجيش من جانبه لن يشارك في الآلية الثلاثية التي توصل للاتفاق، وسيحل مجلس السيادة، ويكون عنده مجلس أعلى للدفاع والأمن فقط! إذا كان هذا كله جائزاً بعد خراب البصرة، فلماذا لا يكون جائزاً قبله؟ لقد نحيتم أنتم ضباط البشير زعيمكم السابق للبؤس والآفاق المسدودة التي أوصل البلاد إليها مع إخوانه فكيف تعودون إلى ارتكاب الأخطاء ذاتها وباب السجن على البشير لم يُغلق بعد! شعب السودان شعبٌ كبير وكريم ويعاني من عسكرييه من عقودٍ وعقود. لكنه مصمم هذه المرة على ألا يخرج من الشارع حتى يخرج البرهان من القصر! وهذه هي أخلاق الاقتناع.
وأحسب أنّ الأمر كذلك مع الشعب التونسي الذي خاضت جماهيره حركة زاخرة هزت العالم العربي. وهو لن ينخدع بهذا التخريب الذي يُسمّى إصلاحاً. وأخلاق الحرية هي أخلاق العقلاء التونسيين، ولا منطق في تغيير استبدادات بن علي والغنوشي إلى تلك التي من اصطناع سعيّد!
أما الشعب الفلسطيني فقد كان مبتلى بإسرائيل، وصار مبتلى بإيران وإسرائيل!
كان أفلاطون يعتبر رجل الدولة سياسياً بلغ درجة الحكمة أو حكيماً نذر نفسه لإدارة الشأن العام. أما ماكس فيبر وقد انهزمت ألمانيا في الحرب الأولى عام 1918 فقد ظل يعتقد أنّ الإنقاذ ممكن برجل العلم الناذر نفسه للعمل العلمي الجامعي، والزعيم السياسي الذي تتوفر فيه أخلاق الحكمة والمسؤولية وسياساتهما.
نموذج أفلاطون مثالي جداً. بيد أنّ مطالب ماكس فيبر وسينيت من السياسي هي – كما يقول يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا الأسبق – بمتناول الكثيرين من السياسيين ولا تقتضي أكثر من احترامٍ للنفس وحسن تقديرٍ للإمكانات المتاحة. وينبّه سينيت إلى أنّ الأميركيين يسمُّون ذلك: مؤهّلات القيادة أو استحقاقاتها؛ وأولها عندهم: الانتخابات. وبين الذين ذكرناهم ليس هناك منتخب غير قيس سعيّد (!)، وقولوا أي شيء عنه إلا «إنّ عنده كاريزما القيادة»، كما زعم ماكس فيبر!