محمد بن حسين الدوسري
TT

تمزيق الإنسان نفسه إلى أشلاء

«فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبير»، (تفسير «ابن كثير» - 5/285 و«البداية والنهاية» 1/307)، وهو جزء من حديث الفتون، وهو حديث طويل جدا رواه النسائي وغيره، وقد صححه ابن كثير ووافقه الحافظ المزي، وهو حديث حري بأن يُقرأ ويفهم.
لم أعد أفهم ما يجري في تلك النفس البشرية التي أقدمت على تقطيع جسدها وتمزيقه إلى أشلاء وكتل من اللحم تتناثر على تلك الأرض التي خُلقت ليبقى عليها ذلك الإنسان لعمارتها.
أهو بحق طلبها للشهادة (مصطلح له مدلوله ومفهومه الشرعي بحسب كل مذهب قديما، وبحسب كل رؤية وفهم للجهاد لدى كل مجموعة معاصرة)؟
أهو بسبب إخفاقها في حياتها اليومية التي لم تستوعب الاختلافات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. أم هو بسبب المناهج الدراسية.. أم هو بسبب الاتجاه الديني المتمكن في هذا الوطن؟
كيف تختزل تلك النفس البشرية بقاءها في هذه الحياة الدنيا بتقطيع أشلائها الجسدية لتكون كتل لحم تتعلق بجدران بيوت بُنيت لتلك النفس البشرية؟
لم أعد أفهم حقيقة السبب في الخلط بين معنى الاستشهاد المقرر من أجل رفعة الإسلام عن طريق يقيني لا يشوبه مثقال ذرة من شك، وبين قتل النفس وتمزيقها أشلاء بطريق لا يقيني بل هو مليء بالشكوك والاحتمالات!
لم أعد أفهم حقيقة غائية الاصطفاف مع فئة أو جماعة لتكوين جيشها لسبب لا يحتمل أي يقينيات بل إنه متشكل من احتمالات محيطة بكل شيء!
لم أعد أفهم كيف تم استحضار صورة قتل النفس التي لم يكن لها ذكر في التاريخ والنصوص الشرعية إلا في آية تختص ببني إسرائيل «فاقتلوا أنفسكم»، وأن قول موسى لقومه «إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم» (البقرة 54). إنما هو تشريع حكم لا يكون مثله إلا عن وحي لا عن اجتهاد، أي أنه يتوجب لزوما أن يكون هناك وحي يُشرعن هذا الفعل، وهو لم ولن يوجد بعد انقطاع الوحي، بل أصبح حكما منسوخا نسخا يقينيا بنزول القرآن واكتمال التشريعات الإسلامية.
وهذا القتل حكم مخالف لقاعدة حفظ النفوس التي اتفقت عليها شرائع الله، والتي هي غرض من أغراض المقاصد الشرعية التي تدور جميع أحكام الإسلام عليها (تفسير التحرير والتنوير للعلامة المفسر الأصولي الطاهر بن عاشور (1/503) - بتصرف -.
وإن حقيقة تشريع القتل للأنفس لبني إسرائيل أنه كان جزاء على عمل ارتكبوه وهو عبادة العجل، فشرع الله لهم أن توبتهم «أن يقتل كل رجل منهم كل من لقي من والد وولد، فيقتله بالسيف لا يبالي من قتل في ذلك الموطن، ويأتي أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا، وغفر الله للقاتل والمقتول» (تفسير بن كثير 5/285 - البداية والنهاية 1/307). هذا التشريع كانت له ظروفه وأسبابه التي قطعها ونسخها إلى غير رجعة رب العالمين بإنزال القرآن وبإحكام الشريعة الإسلامية.
لم أعد أفهم كيف تقبل نفس بشرية عرفت شيئا من أحكام الدين الإسلامي أن تكون نهايتها بتقطيع أشلائها لحما متناثرا دون أن تجعل اليقين في الإقدام على تلك المخاطرة الاحتمالية بأن ما تعتقده تلك النفس قد يكون خطأ، وأن الإقدام عليه يحتاج إما إلى يقين لا يحتمل ولا يطرأ عليه شك أو إجماع يقيني من المسلمين في كون ما تقوم به جماعة المسلمين جهادا حقيقيا متطابقا مع أحكام ومقاصد الشريعة الإسلامية.
لم أعد أفهم لماذا لا يتم البحث الحقيقي والصادق عن أسباب عدم فهم حقيقة وغائية قتل النفس وتقطيع أشلائها وتناثر لحمها، ويكون هذا البحث عميقا وصادقا وشفافا لأنه تغلغل في نفوس بعض أبنائنا، ويبرره البعض، ولأن هذه البلاد تنعم بالأمن والدولة تُحكم السيطرة بكل إتقان وحكمة على الأوضاع، فلا نريد مثل هذه الظاهرة الخطيرة أن تكون مدخلا لأعداء هذه البلاد حكومة وشعبا.