خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

السرسلامجية: أبعد من جريمة المنصورة

بعد شهر من تنحي الرئيس مبارك، بالتحديد في 8 مارس (آذار) 2011، خرجت نساء مصريات في مظاهرة لإحياء يوم المرأة العالمي. وخرجت مظاهرة مقابلة تعترض عليها. ليس في تقابل النقيضين هنا ما يلفت النظر، كانت هذه طبيعة الحالة السياسية وقتها. اللافت كان اختلاط نقيضين آخرين في المظاهرة «الرجالية» المنددة. فهي - من جهة - ترفع على الأكتاف رجلاً يرتدي الزي الأزهري المميز. ومن الجهة الأخرى تتحرش بالنساء تحرشاً بذيئاً. صورة تخالف تماماً الصورة التقليدية في أذهاننا عن سلوكيات شباب ملتزم بدينه. فأي الصورتين أقرب إلى الحقيقة؟
الإجابة الآمنة أنه لا يمكن التعميم. المجتمع المصري في قطاع عريض منه مجتمع محافظ. يستهجن التعرض لامرأة غريبة بالقول الفاحش علاوة على الفعل المسيء. لكن مصر أعرض كثيراً من العريض. وهذا القطاع «العريض» في واقع الأمر لم يعد مصدر الثقافة المهيمنة. بالأحرى، كان مصدر الثقافة المهيمنة بفعل مصطنع، حين كان ممكناً التحكم في الصورة المصدرة عن المجتمع، قبل الانفجار الذري الإعلامي بدءاً من أواسط التسعينات. المعمار يعطيك صورة عن خريطة الأفكار في أي بلد. هذا معيار لا يخيب. إذ المعمار أفكارنا المجمدة، بالتصرف في تعبير غوته «المعمار موسيقى مجمدة».
وفي القاهرة صار الهامش بمعماره العشوائي أكثر كثافة سكنية من المتن. بل إن الهامش فتح لنفسه قنوات ومجاري إلى داخل المتن، بحيث تحكّم في مداخله ومفاصله، عبر حراس العمارات تارة، وعبر الزوايا أسفل البيوت تارة، وعبر الحراك الاجتماعي القسري تارة، ثم الاختياري تارة أخرى. وهو حراك في المساحة لم يقابله حراك في الأفكار. وهنا تبدأ قصتنا.
ليس ما حكيته فيما سبق بالأمر الغريب في تطور المجتمعات. شهده العالم في ألمانيا، وفي إيطاليا، وفي روسيا. لكن ينبغي ألا ننسى أن الدول المذكورة أنتجت في الفترة السابقة لهذا ثقافة قوية، وكان حجم التغير في النشاط الإنتاجي قادراً - ولو بعد حين - على استيعاب هاجري المهن القديمة. نستطيع أن نقول إن حلبة الصراع الاجتماعي ضمت مصارعَيْن قويين، يتبادلان الفوز بالجولات، ثم كان الانتصار بدرجات مختلفة لمواكبة العصر الحاضر.
أما في مصر فتشكيلة المتصارعين داخل الحلبة كانت مختلفة تماماً. كان الهامش مدعوماً بالسلطة السياسية عبر السياسات والقوانين الاشتراكية الفاشلة، ومدعوماً أيضاً بنسخة من الدين وظَّفَها الإسلام السياسي لكي ترضي الأكثرية وتقنعها بأن سلوكها يمكن أن يبقى كما هو، مع تغيير ظاهري في النية، يجعله مؤهلاً لمباركة الدين.
بدأ هذا المنحنى منذ فترة بعيدة، من خلال شرائط الكاسيت في السبعينات والثمانينات، التي اشتهر فيها نجوم رددوا تعليقات حراس البنايات على سكان عمارات الحضر، ونمط معيشة الحضر، بعد أن ألبسوها حلة دينية. كان الشيخ كشك قائد المسيرة، ثم تبعته سلسلة من «دعاة» الإسلامجية. الغريب أن التلفزيون الرسمي نفسه روّج لهذه الأفكار، بعد نزع السخرية، من خلال دروس شيخ شهير روّج للتعصب ضد غير المسلمين، وضد المرأة، ولكراهية البحث العلمي وتحقيره. حين ننظر من فوق أكتافنا إلى ذلك الزمان نتعجب كيف مر هذا من دون ملاحظة. لكن لمَ العجب؟ الثقافة النقدية هيمن عليها اليسار. وهذا منح «المهمشين» دعماً معنوياً إضافياً لسلوكهم برره بأنهم ضحية للسلطة. كان لدى اليسار «كشكهم» أيضاً، ممثلاً في الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم. ولطالما تعانق الفريقان في الكواليس، وإن تعاركا على المسرح. إن تاب اليساري صار إسلامجياً، وإن تاب الإسلامجي صار يسارياً. هذا يسب مخالفيه بلفظة «ديوث» والآخر يحولها إلى لفظة عامية مرادفة. كان هؤلاء جميعاً فريقاً واحداً في الحلبة الاجتماعية. يلمس أحدهم الآخر فيسمح له بالدخول ومواصلة الإنهاك للخصم الوحيد، الذي بلا نصير، الطبقة الوسطى الحضرية.
ولا أعني بالطبقة الوسطى هنا الطبقة البلاستيكية التي صنعتها سنوات الخمسينات والستينات من موظفي الدولة، وملَّكتها ما تأجرت. بل الطبقة المنتجة المستقلة، الطموحة، من صغار المستثمرين، وصغار الملاك وأصحاب الأعمال الحرة. الطبقة التي تنتج في أي مجتمع أخلاق المسؤولية والاستقلالية والعمل الجاد. الطبقة التي لا تُخترق قواعد الاقتصاد من أجلها. لم تنل منحة في أول مايو. ولم تضمن راتبها أول الشهر انتفخ الاقتصاد (تضخم) أو استقر، ازدهر سوق العقارات أو انهار. الطبقة التي لا تتلقى شققاً سكنية بأقل من تكلفتها، سواء بالإسكان الاجتماعي أو بتحديد سقف الإيجارات وتوريث العقارات المؤجرة. الطبقة التي لا ترضى لنفسها بالعيش الكفاف، فتنجب على قدر طاقتها، وتدفع من أجل تعليم أبنائها، ولا تعتبر أن اسماً زائداً على البطاقة التموينية، أو كرسياً إضافياً في فصل مزدحم، رزق ساقته الحكومة إليها.
اجتمعت هذه العوامل لتنتج الخليط الغريب المتناقض الذي «صدمنا» بمجرد ارتخاء القبضة الأمنية في أعقاب يناير (كانون الثاني) 2011. خليط السرسجة، وهي كلمة مصرية تعني سلوكيات العشوائيات، مع الإسلامجية الذين صاغوا نسخة من الدين ترضي غرضهم السياسي، الخليط الذي أشرت إليه في العنوان بلفظة السرسلامجية. صدمنا ظهوره العلني على الشاشات لكنه كان موجوداً على الدوام. كان موجوداً في حوادث التحرش الجماعي التي سبقت هذا التاريخ، والتي بُررت في الهوامش بوصفها جزاء وفاقاً للنساء اللاتي يتزينّ، أو لا يقرن في بيوتهن. «باب للجهاد» لا يشق على «المحرومين» ولا يتطلب منهم فعل غض البصر المذكور في الآداب الدينية.
مصر الآن مصدومة من تصريحات لشيخ تلفزيوني، بدا منها أنه ينصح النساء إن أردن أن يتجنبن القتل بأن يعادين التزين، وأن يخرجن على شكل «قُفَّة». مصدومة لأن الجريمة التي جاء التعليق في سياقها صادمة. لكن الحقيقة أن لا شيء جديداً في كلامه. إن لم تصدق شكوى النساء المصريات من سلوك «السرسلامجية»، فصدق الوافدات الزائرات. الموضوع لا يحتمل مزيداً من دفن الرؤوس في الرمال.