حنا صالح
كاتب لبناني
TT

في الوقت الداهم!

اليوم 16 يونيو (حزيران)، يكون قد انصرم شهر كامل على إجراء الانتخابات البرلمانية يوم 15 مايو (أيار)، وما من مؤشر جدي بعد على موعد الدعوة الرئاسية لإجراء استشارات نيابية ملزمة، لتكليف شخصية سياسية تشكيل حكومة لبنان ما بعد الانتخابات!
على مسافة 137 يوماً المتبقية على وجود ميشال عون في بعبدا، هناك زحمة استحقاقات تواجه لبنان والوقت داهم، أولها استحقاق ترسيم الحدود البحرية الجنوبية مع إسرائيل، وثانيها انتخاب رئيس جديد للبلاد قبل نهاية الفترة الرئاسية الحالية في 31 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. ومن أجل ضمان السير بهذين الاستحقاقين، وقبلهما اتخاذ القرارات المسؤولة التي يمكن لها كبح الانهيار ووقفه، وحماية الحد الأدنى لتوفير عيش المواطنين، هناك أولوية وجود حكومة إنقاذ حقيقية تتحمل المسؤولية التنفيذية في المرحلة العاصفة الحالية.
تعيش بعبدا حالة من السريالية، فيتم استعادة أفلام التكليف السابقة، من دون الأخذ بعين الاعتبار لا حجم الانهيارات التي دفعت أكثرية الناس إلى العوز وحاصرتهم المجاعة، ولا موجب وجود حكومة جديدة بعد الانتخابات النيابية. يعود عون إلى نغمة التوافق على تأليف الحكومة قبل التكليف، ويريد أن يحسم مسبقاً اسم الشخصية التي ستكلف قبل الاستشارات النيابية الملزمة. والأكيد أن الثنائي عون – باسيل، يربطان التكليف بأجندة تمنح «صهر القصر» الكلمة العليا في المرحلة المقبلة. لذلك يتم تنحية الدستور، والسير في خطٍ متصادم مع نتائج الانتخابات، والسعي لوضع كل الآخرين أمام استحقاق القبول بالشروط، أو دخول البلاد في حقبة تصريف أعمال طويلة، فيستوطن التعطيل ويتعمق بحيث يتعذر أكثر فأكثر تجاوز مخاطر الانهيار الداهم للمجتمع اللبناني، بعد تجويف السلطة، ليتظهر أمام القاصي والداني أن الاستحقاق الرئاسي في خطر.
الزمن ليس مفتوحاً أمام لبنان والتحديات تتطلب وجود سلطة تنفيذية قادرة على القرار، ففي الوضع الراهن هناك غياب لبناني وقصور في زمن التحولات الكبرى مع حرب أوكرانيا وتداعياتها العالمية. فمقابل استقدام إسرائيل حفارة عملاقة للتنقيب في «كاريش»، واندفاعها في سباقٍ مع الوقت لبدء ضخ الغاز في فترة لا تتجاوز الأشهر الثلاثة، تمّ رسمياً الاستنجاد بالوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، في وقت تشير فيه كل المعطيات إلى أن ثروة اللبنانيين الغازية والنفطية في خطر شديد، إن لم يجرِ تعديل المرسوم 6433 لتثبيت حقوق لبنان قبل بدء إسرائيل استخراج الغاز.
وسيكون الخطر مضاعفاً مع التخلي غير المبرر عن السيادة، والتنازل المشين عن الثروة والترويج لمفهوم قاصر: «قانا» مقابل «كاريش»، فإن «حقل قانا» ورقة مطوية لأن لا تنقيب بعد ولا توقعات بشأن محتوياته، في حين أن ثروة هائلة موجودة في «حقل كاريش» الذي يمتد إلى شمال الخط 29، أي إنه حقل مشترك. ذلك أن الخط 29 خط الحدود «شرعي وقانوني ومثبت بالمستندات والقوانين الدولية» وفق ما أكدته المذكرة التي رفعها نواب «ثورة تشرين» إلى رئيس الجمهورية. والتنازل سيعني أن العدو سيعد «حقل قانا» مشتركاً وسيطالب بحصته، وإن تمكن من تلزيم البلوك رقم 72 الذي يشمل «حقل قانا» الممتد إلى جنوب الخط 23، فإن لبنان سيخسر كل شيء! وفوق ذلك، سبق للوسيط الأميركي الذي اقترح ترسيماً متعرجاً، أن طالب لبنان بالتخلي عن 20 في المائة من «حقل قانا» لإسرائيل، ومنحها 300 كلم مربع من البلوك رقم 8 الذي يقع ضمن الخط 23، ويشكل ممراً إجبارياً للغاز المصري - الإسرائيلي باتجاه قبرص وبالتالي اليونان وأوروبا، ما يعني أن لبنان مهدَّد فعلياً بالخروج صفر اليدين!
هذا الهم الداهم، كما الانهيارات المدمّرة، ومخاطر أزمة الغذاء العالمية التي تعصف بلبنان، لا تدخل ضمن أولويات التحالف المتسلط، الذي تتحكم في مواقفه وأدائه حسابات فئوية في المحاصصة الحكومية تضمن هندسة تشكيلة وزارية تخدم منحى القصر في الانتخابات الرئاسية! وتنطلق من إصرارٍ على التعامل مع الانتخابات البرلمانية كأنها لم تحصل، ولم ينجم عنها تعديل نوعي في تركيبة مجلس النواب، ولم تبرز مطالبة شعبية واسعة بالتغيير. فيدفعون البلد نحو مأزقٍ سياسي، يتم العمل على خلق شروطه، وينطلقون من الرهان على منع التأليف إلاّ بشروطهم، وإلاّ ليستمر التكليف، ففي ذلك مقدمة لتعطيل الاستحقاق الرئاسي.
بالعمق يسعى القصر، مستفيداً من دعم «حزب الله» وعلى الأغلب بالتوافق معه، إلى الرهان على الفراغ وتعميم الانهيار، ووضع البلد أمام خيارين اثنين؛ إما إيصال باسيل إلى بعبدا رئيساً إن نجح مخطط تكرار «تسوية» شبيهة بما جرى عام 2016، وإما ابتداع طريقة ما لبقاء عون في بعبدا! نقول ابتداع، والأصح فرض حالة انقلابية، لتعذر اقتراح تعديل دستوري من جانب حكومة تصريف الأعمال، فيكون الأمر عنوة استناداً إلى سلاح الدويلة غير الشرعي. هنا مفيد أن نتذكر ما أعلنه النائب جميل السيد مؤخراً من القصر الجمهوري إثر لقائه عون، من أنه «لا تسليم للرئاسة إلى حكومة تصريف أعمال»! والحجة أنه لا يجوز الشغور في المنصب الدستوري الأول، كما لا يجوز الشغور في المنصب الأول في الدولة الذي يعود إشغاله إلى المسيحيين! والأكيد أن فتاوى كثيرة جاهزة تقول إن موقع الرئاسة لا ينبغي أن يترك رهينة للفراغ وبعهدة حكومة تصريف للأعمال!
هذا السياق الخطر يؤكده التهديد الذي أطلقه جبران باسيل إثر الانتخابات عندما قال إن عدم قيام حكومة، بشروطه طبعاً، فهذا الأمر «يُسقط اتفاق الطائف ويجعل كل موقعٍ ومؤسسة دستورية من دون حدود زمنية»! مثل هذا التهديد أكبر بكثير من قدرة باسيل على فرضه، ويستحيل ألاّ يكون خارج التوافق مع «حزب الله» ليبقى عون في بعبدا، ويتكرس اقتطاع الوزارات والمواقع القيادية. إنه مخطط زج البلد في أخطر متاهة!
التحديات كبيرة، ولا تملك السلطة خطة لإدارة الفراغ. الاستحقاق الرئاسي ينبغي أن يتم في موعده لأنه في زمن الانهيار المريع لا قدرة لحكومة تصريف الأعمال على ممارسة دستورية لصلاحيات الرئاسة الأولى، ولا أحد يخبرنا بأن انقلاباً ميليشياوياً قد يكون ممكناً، يستطيع توجيه البوصلة، فرهان «حزب الله»، كان وما زال، على توجيه الأمور من الخلف كي يتهرب من تحمل مسؤولية التردي المريع والعزلة عن المحيط.
إن عبئاً كبيراً يقع على نواب الثورة الـ13، فهم في موقعٍ مرهوب الجانب لأن أكبر كتلة شعبية عابرة للمناطق والطوائف أوصلتهم، والأداء الذي قاموا به في جلسات انتخاب رئاسة المجلس ومكتبه ولجانه إلى تعاطيهم مع قضية ترسيم الحدود، قدمت نموذجاً كان مفقوداً لأداء النائب، يمكن أن يستقطب آخرين ليتشكل تكتل نيابي وازن يستند إلى شارعٍ متحفز يشكل الأكثرية الشعبية، ما سيعرّي بالتأكيد المخطط الهادف إلى مواصلة اقتلاع البلد من خلال الرهان على تأبيد الفراغ لتتحلل السلطات فتسهل السيطرة على لبنان.