د. عبد الملك بن أحمد آل الشيخ
مستشار قانوني و كاتب سعودي
TT

الوطن.. الواجب أولاً!

كثيرًا ما ارتبطت كلمة الولاء قديمًا بالسلطة والحرب، وحديثًا بالوطن وبالقيم الاجتماعية، وأصبح الولاء للوطن قيمة مهمة يطالب الفرد بالتمسك بها تحقيقًا لوحدة الدولة واستقرارها. إلا أن هذه القيمة في عالمنا العربي تواجه بمشكلات عدة ومعقدة، منها ما يتعلق بطبيعة هذا الولاء، وما إذا كان مرتبطًا بمصلحة خاصة ينتهي بانتهائها، ومنها ما له علاقة بأنواع الولاء وماهية القضايا التي يتجه إليها. ومع تطور المجتمعات في العالم العربي وانفتاحها على العالم اكتسب مفهوم الولاء للوطن أهمية كبرى لعلاقته بسيادة هذه الدول وتماسك مجتمعاتها. وأصبح من الضرورة البحث في هذا المفهوم وطبيعته القانونية واللاأخلاقية، فإنسان العالم العربي يعاني من الحيرة تجاه المفاهيم المحلية للولاء كالولاء للطائفة والقبيلة والحزب، وواجباته الأخلاقية تجاهها مقابل ولائه للوطن. وقد ساهمت ثورة المعلومات وما أتاحته من انفتاح لا محدود على العالم الخارجي، في زيادة تلك الحيرة لدى الإنسان العربي تجاه هذه الولاءات المحلية، بل وحتى الولاء للوطن.
وقد تنوعت وسائل الاستقطاب الخارجية الموجهة للفرد العربي من قبل قوى لها مصالحها وأصبحت رقمًا صعبًا في جهود دول العالم العربي لترسيخ مفهوم الولاء للوطن. (يوجد العشرات من المحطات الفضائية باللغة العربية موجهة للعالم العربي من كافة دول العالم خلاف المئات من المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي)، والواضح أن العربي أينما كان أصبح هدفًا ثمينًا، فالجميع يحاول كسب وده لتشكيل عقله، فالعالم العربي الذي هو في قلب الأحداث الكبرى جعل من مسألة مخاطبة العقل العربي مسألة جوهرية لدى كثير من الدول المتنافسة على المنطقة العربية. وأصبحت هذه الدول تتسابق وبأساليب ناعمة في الحديث عن حقوق المواطن العربي وهمومه الاقتصادية والسياسية وحتى الاجتماعية منها، فأضحت في نظر البعض هي المنابر المدافعة عن الفرد العربي وحقوقه. ومن المؤكد أن هذا الاستقطاب الخارجي أتى، لأن ثمة أرضًا خصبة لتمرير خطابه لكسب العقل العربي وإضعاف ولائه للوطن، فهم يراهنون على الزمن ودونما مصادمة مباشرة وواضحة مع منظومات القيم لديه، في ظل غياب واضح لوسائل الإعلام العربي والبرامج الوطنية المبدعة لمواجهة هذا الاستقطاب الناعم، فأصبحت وسائل الإعلام العربية إما متبنية بسذاجة متناهية لهذا الخطاب أو نافية بشدة لهذا القصور في جانب الحقوق لديها.
من هنا، تصبح فكرة الولاء للوطن فكرة مشوشة وغير واضحة في عقل الإنسان العربي، فهو يسمع كلمة الولاء للوطن في وسائل الإعلام العربية يُتغنى بها كثيرًا، ولكن هذا الإعلام لم يستطع أن يوصل للإنسان العربي معناها الحقيقي ليدرك أنها محور الاستقرار والواجب الرئيسي بين كل الواجبات.
فالولاء للوطن لا يأتي مصادفة، إنما هو مشروع حضاري يتم تنفيذه على مراحل، وهذه المراحل لا تؤتي ثمارها بمجرد إضافة زمنية عابرة، بل هي نمو عضوي تراكمي مستمر، وأي خلل في هذا النمو تكون نتائجه دون المستوى المطلوب ومخيبة للآمال. فغرس الولاء للوطن ليس حربًا نخوضها بالسلاح والعتاد، كما أنه لا يكفي فقط أن نعقد المؤتمرات والندوات وندخل في حوارات حول هذا المفهوم، وينتهي دورنا بانتهاء هذه الفعاليات، بل يجب أن نرصد حركته ومراقبته بعد ذلك ونشره من خلال برامج مدروسة ومستمرة للمحافظة عليه وتعزيزه، لكي يستطيع الإنسان العربي أن يدرك هذا المعنى النبيل والأصيل، وأن يُنقّى مفهوم الوطن من شوائب الولاءات التي علقت به وأسهمت مساهمة كبيرة في شرذمة العالم العربي سياسيًا واجتماعيًا، سواءً كانت تلك الشوائب خارجية أو داخلية.
وإذا كانت المحافظة على روح الولاء للوطن ضرورة ملحة في كل دول العالم، فإن ضرورتها أكثر إلحاحًا في العالم العربي الذي توجد فيه خمائر جاهزة ضد المواطنة من طائفية قبلية وإقليمية وحزبية.
ومن الركائز المهمة لترسيخ الولاء للوطن، القيام بالواجب تجاهه، بألا يطغى جانب المطالبة بالحقوق (كما يريده البعض «فقط» أن يكون) على جانب القيام بالواجب تجاهه؛ بمعنى أن نركز في منطقنا السياسي والاجتماعي والثقافي والإعلامي على القيام بالواجب تجاه الوطن أولاً، ثم تأتي المطالبة بالحقوق ثانيًا، مع الإدراك التام بأن كل فرد بطبيعته تواقٌ إلى نيل الحق والنفور من القيام بالواجب. ومن أوجب واجبات الولاء للوطن ألا تكون المطالبة بالحقوق سببًا في تفكك الدولة وتشرذمها أو نشر الفوضى وزعزعة السلم الاجتماعي، بل أن يكون أساس الولاء للوطن القيام بالواجبات المحافظة على كيان الدولة واستقرارها، فالوطن الذي ينمو وينهض هو الوطن الذي لدى مجتمعه رصيد من الواجبات فائض على الحقوق!