خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

النساء الضائعات بين الإسلامجيات والنسويات

الأخوات، أو عدد ليس بالهين منهن، يعتقدن في قوامة الرجل وفقاً لتفاسيرهن، وأن المرأة التي تبيت وزوجها غير راضٍ عنها تلعنها الملائكة، وأن المرأة لا تستحق أكثر من نصف ميراث الرجل، كما أن للرجل أن يعدد في الزواج ما شاء وليس عليه استئذان زوجته في هذا، وأنه ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. وهن «واثقات» أن تلك وصفة الأسرة والمجتمع السعيد، في عصر النبوة، كما في عصرنا الحالي، وما بينهما وما يأتي بعدهما من عصور.
أما النسويات فيرين أن الأدوار التي اضطلعت بها المرأة تقليدياً لم تكن أكثر من أقلمة مجتمعية، وبها يفسرون كل شيء، من أول اختيار ألوان الملابس، إلى اختيار مجالات التخصص الأكاديمي. ويعتقدن أن التاريخ كتبه الذكور فطمسوا دور المرأة، وأن العضلات أخلت العالم للذكور، وحصرت المرأة في دور إطعامهم، وإمتاعهم، وإنجاب نسلهم. شعاراتهن الأكثر شهرة تتحدث عن «الذكورة السامة» وعن أن الطريق إلى «المساواة» مع الذكور هو التمييز الإيجابي للنساء.
يبدو أن الفئتين على طرفي نقيض إذن. المفاجأة أنهما ليستا. صرنا نراهما معاً في مظاهرة يوم المرأة، على المنصة لا بين الجماهير. فلا نعلم إلى أي اتجاه تسير الحركة النسوية الجديدة. إن سألنا قيل لنا ما يجمعهما هو الدفاع عن «الحرية الشخصية»، وكفّ ألسن الرجال عن الانشغال بالنساء. من تُرِد الحجاب فليكن، ومن تُرِد التزين فليكن. إجابة تبدو مفحمة، تحمل رحيق زهرة الحداثة والحرية. لكنها في الحقيقة إجابة محتالة للغاية. والاحتيال لا يكون احتيالاً إن فشل في أن يبدو أميناً وباعثاً على الطمأنينة والثقة. نعرف جميعاً أن رجال «الأخوات» هم الذين يلاحقون الخيارات الشخصية، ويطاردون المتزينات، ويحرضون عليهن. ونعرف جميعاً أن الأخوات أيضاً يفعلن ذلك. من تتعرضن للإساءات في الشوارع وفي المترو والتحريض على التحرش بهن نساء أيضاً، لا تلتفت إليهن الحركة النسوية الغربية حين تتحالف مع الأخوات، ولا الحركة النسوية هنا حين يستسلمن لخدعة «الحجاب حرية شخصية»، ويغفلن أن التزين أيضاً حرية شخصية.
إن تتبعنا هذا الاحتيال من صفوف كثير من الإسلامجية، الذين نعايشهم، سنصل إلى فهم أكثر للنسويات الغربيات وأتباعهن. هن أيضاً يرفعن شعارات «إيجابية» ويمررن من تحتها أغراضاً عكسية.
بداية، كل هذه حركات حشدية وظيفتها تعليب خيار معين وترويجه على أنه «الخيار الفردي» الصحيح. ثم إشانة من لا يلتزمه. خطتها «تدليل» الفرد حتى ضمه إلى حشد، ثم تسخير الحشد ضد الفرد لإلغائه.
تنطلق الفئتان من حركة احتكارية، لقيمة ثمينة. الإسلامجيات يحتكرن منتج الإيمان. والنسويات يحتكرن منتج حقوق المرأة. قضيتان يتشارك فيهما كثيرون، لكن الفئتين تفرضان نفسيهما حارسين على الباب إليهما. ثم يحولانهما إلى عُملة انتخابية. في لعبة خلفية يعبر عنها أفضل تعبير مقولة جو بايدن أثناء الحملة الانتخابية الأميركية إن الناخبين السود الذين يحتارون في الاختيار بينه وبين ترمب ليسوا سوداً حقيقيين. لو استبدلت بكلمة سود كلمة مسلمين، أو كلمة نساء، ستلخص بالضبط جوهر هذه الحركات الثقافية/ السياسية التي صارت تشكل، بدلاً من الأحزاب، حياتنا السياسية العصرية.
تشترك النسويات والإسلامجيات في نقطة أخرى، لن تجدها في أدبياتهن، لكنك ستلمسها كحصاد طبيعي لما يروجن له. كلتاهما تخلق جمهوراً غائياً غوغائياً، تمنحه الشعارات المعلنة سنداً معنوياً لممارسة استعلاء مجاني غير مستحق.
تنظر الإسلامجيات باحتقار إلى امرأة أخاذة الجمال، لم ترتكب جرماً ولا حماقة سوى أنها جميلة وشيك. يجدن عزاءهن في بوست يقول إنهن كن يستطعن أن يكن في جمالها لولا أنهن شريفات «لا يعرضن أجسادهن سلعة». ونضحك في سرنا، نحن الرجال. لأننا نستطيع أن نفعل ما بدا لنا، لكن هذا لم يلغ أن بعضنا أكثر وسامة وجاذبية من غيره.
النسويات أيضاً لديهن معادل لهذا «الشرف» الاستعلائي يمنح الراغبات طريقات مختصراً لتبرير السلوك الغائي نحو الرجال. فتصير «المظالم التاريخية» مبرراً لظلم الرجل الفرد. أحياناً لاتهام رجل بعينه بالاغتصاب، أو العنف المنزلي، من دون دليل. أو مسوغاً لتجاوز رجل مجتهد مستحق لمنصب لصالح امرأة. أو مبرراً لامرأة سيئة الخلق مستفزة أن تضع رجلاً بين مطرقة أخلاقها المستفزة وسندان الأحكام المجتمعية الشائعة التي صارت ضد الرجال.
شيء شبيه بما يفعله اليسار مع الفقراء حين يروج لهم بأنهم أفضل من غيرهم (ليسوا سواء مع غيرهم بل أفضل) لأسباب تتراوح بين إقناعهم بأنهم ضحية، أو بأنهم على وضعهم هذا لأنهم «شرفاء»، أو بالترويج للإعالة المجتمعية على أنها عدالة اجتماعية. مما يوحي بانتفاء الشرف أو العدالة إلا بالتمييز لصالحهم. يبدو الكلام في صالح الفقراء، لكنه ينعكس سلباً عليهم بتحويلهم إلى عقلية غير تنافسية تدمن دور الضحية.
أفهم جيداً أن أول تعليق يتبادر إلى الذهن على مقال كهذا هو: وما علاقتنا نحن؟ نحن لا نعيش حياة سياسية منفتحة، والمرأة عندنا مضطهدة فعلاً. وأنا أرى أن الجملة الأخيرة هي إجابتي عن السؤال. لأن ما يحدث في الغرب صار ينعكس علينا، ونحن في مرحلة جنينية أو رضيعية حرجة من التطور السياسي والاجتماعي. حركات الصحوة اليسارية في الغرب صارت داعمة لحركات الصحوة الإسلامجية لدينا. وبالتالي، تحت دعوى التطوير السياسي صارت تدعم أكبر معوق للتطور السياسي والاجتماعي. تحت دعوى مجابهة «السلطة» صاروا يدعمون السلطة الأكثر طغياناً في مجتمعاتنا، وأعني بها سلطة الإسلامجية المتسللة إلى كل شارع وبيت، والداسة أنفَها خلف كل باب، والمسخرة نفسها كمخبرين متطوعين يلاحقون الأفراد. والنساء الطرف الأضعف في هذه المعادلة. حيث معظم ما يقع على المرأة من ظلم يجد سنده المعنوي في أفكار تروجها في الأعم الإسلامجيات. والمفارقة الأكبر أن الفرع المحلي من الإسلامجيات تستخدم أفكار النسويات الغربيات وسيلة للدعاية ضد الحداثة وضد «حقوق المرأة». دائرة مفرغة!!