د. محمود محيي الدين
المبعوث الخاص للأمم المتحدة لأجندة التمويل 2030. شغل وظيفة النائب الأول لرئيس البنك الدولي لأجندة التنمية لعام 2030، كان وزيراً للاستثمار في مصر، وشغل منصب المدير المنتدب للبنك الدولي. حاصل على الدكتوراه في اقتصادات التمويل من جامعة ووريك البريطانية وماجستير من جامعة يورك.
TT

خمس أولويات للعمل المناخي في عالم شديد التغير

على ضفاف نيل القاهرة جمعني حديث مع الدكتور محمد العريان، الاقتصادي المصري العالمي، وكان في واحدة من زياراته الخاطفة للبلاد في عام 2008 بعد صدور كتابه المعنون «عندما تتصادم الأسواق»، وكنا عند هذا اللقاء في أجواء أشهر الصيف الساخن الذي سبق إفلاس بنك «ليمان براذرز» ثم انهيار الأسواق المالية في خريف تلك السنة، بسؤال عن ترجيحه لأي من المسارين ستتخذه الأسواق هل هبوط ناعم أم هبوط عنيف؟ وما هي البدائل المتاحة والأولويات التي يجب أن تشغل صناع السياسة الاقتصادية كأولوية؟
فأخذ ورقة وقلماً ورسم جدولاً من عمودين وصفين، ووضع في العمود الأول كلمة عاجل باللغة الإنجليزية، وفي الآخر وضع «غير عاجل»؛ وفي الصف الأول وضع «ضروري» وفي الصف الآخر وضع «غير ضروري». وتحول الحديث بيننا إلى مباراة لتصنيف ما يجب وضعه في الخانات الأربع في هذا الجدول المبسط لاتخاذ القرار: الخانة الأولى للقرارات الضرورية العاجلة، والخانة الثانية للقرارات الضرورية غير العاجلة، والثالثة للقرارات العاجلة غير الضرورية، والرابعة والأخيرة للقرارات غير العاجلة وغير الضرورية. وللتوضيح سأسوق أمثلة للحالات الأربع:
- هب أن شخصاً أصيب في حادث سير وهو في طريقه للحاق بقطار، فالقرار بديهياً سيكون عاجلاً وضرورياً لإنقاذ حياته بطلب المسعفين له.
- بعد إسعاف هذا الشخص بعلاجه ثم الاطمئنان عليه سيكون من الضروري البحث عن ذويه، ولكن لا يحمل هذا الأمر رغم أهميته ذات درجة الاستعجال كإنقاذ حياته.
- أما الأمر العاجل غير الضروري في حالة هذا الشخص، فهو ما كان مُقدِماً عليه باللحاق بالقطار فمنعته ضرورة علاج إصابته عنه.
- وتبقى الحالة الرابعة، التي ليست عاجلة فعلاً ولا ضرورة لها أصلاً، بأن يترك الشخص مدرجاً في دمائه ولا يطلب له من تصادف وجودهم حوله مسعفاً، بل يقومون بتصويره ونشر صور المأسوف عليه على مواقع التواصل الإلكترونية.
وفي هذا العالم شديد التغير تتزاحم المستجدات الداعية إلى اتخاذ القرار في خانة الأمور الضرورية العاجلة فيتصدى لها الحصفاء من متخذي القرار بما يلزمها، ولكن هناك من يصنفها جهلاً أو تجاهلاً في خانة أدنى تنزع عنها صفة الاستعجال والضرورة، وقد يقدم عليها ما يهدر الإمكانية ويضيع وقتاً ثميناً لتخفيف التكلفة أو اغتنام فرص كانت سانحة.
وقد اجتمعت في أيامنا هذه أزمات عدة بدأت بتداعيات أزمة «كورونا»، التي لم يبرأ العالم منها بعد، وبما لحق البشرية من أذاها في حياتهم ومعيشتهم وما سيستلزم منهم زمناً طويلاً لسداد مديونياتها التي تراكمت أعلى جبال من ديون عامة وخاصة، كونتها سنوات من الإسراف في الاقتراض المدفوع بموجة من انخفاض لأسعار الفائدة. ثم أتت الحرب البائسة في أوكرانيا في أعقاب خلل واضطرابات في النظام العالمي وتصاعد حدة المشكلات الجيوسياسية بين قوى تقليدية وأخرى صاعدة. وجاءت الأزمة الأخيرة بعد شكوى من ارتفاع الأسعار تضخماً لعدم ملاحقة سلاسل الإمداد لعرض السلع والمنتجات لزيادة معدلات الطلب. وبعد كثرة توقع عن التعافي وسرعته وأشكال لمنحنياته يواجه العالم فعلاً معدلات تضخم لم يشهدها منذ أربعة عقود، وتراجعاً متزامناً في معدلات النمو والتشغيل، واضطراباً عنيفاً في البورصات، محت في أسابيع مكاسب أعوام كان بعضها مستحقاً وبعضهاً الآخر مفتعلاً أو منتفعاً بضخ للسيولة وتهافت المضاربين. ومع ذلك، فلا ينبغي بحال أن يُلقى اللوم كله على مشاجب أزمات عالمية وصدمات خارجية، فالتحقق المبين والتشخيص المنضبط مطلوبان لحسن العلاج واستكمال التعافي، فالدول حيال هذه الأزمات وتعاملها معها في تباين له ما بعده من تكريس للتفاوت بينها.
ورجوعاً إلى الجدول المشار إليه لا يُخشى في عملية اتخاذ القرار من سوء تصنيف الأمور العاجلة والضرورية فهي تفرض نفسها فرضاً، إلا إذا حجب الرؤية عنها تدليس في البيانات أو تهوين للخطورة. ولكن المشكلة قد تتجلى بمزاحمة الأمور الضرورية بما يرجئ التعامل معها والاهتمام بديلاً عنها بما يظهر على أنه عاجل وإن كان غير ضروري، أو يختلط الأمر بتقديم ما هو أدنى في مراتب الأولويات من حيث الضرورة والاستعجال معاً. ولهذا أسباب، منها تصدع هرم المعرفة لغياب البيانات أو لقصور المعلومات أو افتقاد الخبرة اللازمة، ومن الأسباب أيضاً غلبة مواقف آيديولوجية مسبقة تحيد بالقرار عن النهج العلمي والعملي في التعامل المبكر والحصيف مع الأزمات قبل استفحالها، أو تكون عملية اتخاذ القرار عرضة لتأثير جماعات مصالح تحيد بها عن تحقيق الصالح العام.
وأسوق ما سبق لخطورة عواقب إهمال قضية تغيرات المناخ، فلم يقلل من شرها خطورة ما يواجهه العالم من أزمات متعاقبة من وباء وحرب وغلاء وركود وديون. فالتصدي لأزمة المناخ ضرورة عاجلة ما زالت ميسورة الحلول بما يتوفر في عالمنا من مال وعلم وقدرات تكنولوجية. فكما أفصح العلم عن خطورة تأثيرات الانبعاثات الضارة على مناخ الأرض وما يترتب على ارتفاع درجة حرارة الأرض 1.5 درجة مئوية فوق مستوياتها قبل الثورة الصناعية، فقد طور العلم أيضاً وتطبيقاته الحلول العملية لتخفيف الانبعاثات الضارة والتكيف مع آثارها. ولكن هذه الحلول تستوجب تمويلاً ضخماً وسياسات متكاملة ومؤسسات فاعلة تعمل على تنفيذها بكفاءة.
ولما كانت القمة السابعة والعشرون للمناخ، التي ستعقد في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل في إطار الأمم المتحدة، ستستضيفها مصر كدولة ذات شأن بحضارتها ذات التاريخ العتيد وثقافتها العربية وجذورها الأفريقية ولدورها في محيط البلدان النامية وتفاعلها الدولي الممتد عبر البحر المتوسط ولامتداد أواصر تعاونها بين مشارق الأرض ومغاربها، أرى هذه القمة بانية على خبرات ما سبقها من قمم احتشدت لها قيادات الدول ومفاوضوها والأطراف غير الحكومية من ممثلي القطاع الخاص والمجتمع المدني والفاعلين من الأجيال الشابة والمؤسسات والمنظمات الدولية.
وأقدم هنا بإيجاز ما سأقوم بتفصيله في مقالات قادمة لما اعتبره أولويات لقمة المناخ المقبلة:
أولاً، تبني منهج شامل لبرامج العمل المناخي من خلال تدعيم التعامل مع تحديات تغيرات المناخ من خلال الإطار المتكامل للتنمية المستدامة، وفي مقدمة أهدافها مكافحة الفقر. ويستلزم هذا المنهج الشامل تحقيق التوازن بين جهود تخفيف الانبعاثات الضارة بالمناخ والتكيف مع آثارها وتوفير وسائل تحقيقها، والتوسع فيها، والعمل على أن يكون ذلك في إطار عادل وفعال لعملية إدارة التحول.
ثانياً، بناءً على الأهداف والطموحات المتفق عليها في اتفاق باريس واستناداً إلى نتائج قمم المناخ السابقة ستكون الأولوية الكبرى لقمة شرم الشيخ هي التركيز على التنفيذ للتعهدات التي عقدتها الحكومات على نفسها والالتزامات التي قطعتها المؤسسات المالية وشركات القطاع الخاص والمنظمات الدولية. فلقد تبارت جهات وأطراف شتى في تقديم وعود مساندة لأولويات العمل المناخي لم يرق تنفيذها لما هو مأمول أو متوقع. وقد حان وقت الوفاء بالتعهدات، خاصة مع ما تظهره التقارير العلمية المعتمدة من تدهور في أوضاع المناخ وأنه يزداد سوءاً بمعدلات متسارعة عما كان مقدراً.
ثالثاً، تحتاج جهود العمل المناخي ومشاريعه إلى تمويل ضخم لن تكفيه تعهدات كوبنهاغن ذات المائة مليار سنوياً منذ عام 2009، وهي لم يتم الوفاء بها في أي سنة على أي حال، ولا تكفي هذه المبالغ ولا مضاعفاتها لسد فجوات تمويل العمل المناخي، ولا حتى في بند واحد من بنودها وهو توفير الطاقة النظيفة. بما يستوجب مشاركة القطاع الخاص بالتمويل الاستثماري بالأساس؛ فقد وصلت المديونيات لحدود عليا تستوجب الاعتماد على منح الحكومات والابتكار والتطوير في برامج التمويل الذي يعتمد على المشاركة الاستثمارية دون زيادات أكبر في أعباء الديون. كما تلح الحاجة إلى اتفاق لقواعد ومبادئ وأولويات تمويل العمل المناخي لما بعد عام 2025.
رابعاً، الدفع بالعمل الإقليمي والتعاون في إنجاز مشاريعي ذات بعد جغرافي ونطاق يتجاوز حدود دولة بعينها، وهو ما تتطلبه جدوى مشروعات عدة للتخفيف والتكيف لا تكفي إمكانات دولة واحدة، خاصة إذا كانت ذات اقتصاد صغير الحجم لإنجازها. ويتيح التعاون مع الأقاليم الاقتصادية الخمسة للأمم المتحدة فرصاً لإنجاز مشاركات كبرى ومجالات للتعاون بين الأصول المالية المتعهد بها لمشروعات وهي أكثر من 130 ملياراً وتحويلها لتدفقات مالية استثمارية.
خامساً، توطين مشروعات العمل المناخي والعمل على توافق تنفيذها مع برامج التنمية المستدامة دون تنافر معها على مستوى القرى والمدن والأقاليم النائية والجزر الصغيرة، بما يحقق أهداف النهج الشامل في التنفيذ عدلاً وكفاءة.