لحسن حداد
برلماني ووزير مغربي سابق
TT

المغرب والصحراء الكبرى... الإرث المُرابِطي والجيوستراتيجيا الحديثة

من يقرأون الأهداف الجيوستراتيجيا التي تسطرها الدولة المغربية على أنها فقط الظاهر من باطِنٍ يخفي نية مبيتة ودفينة لإعادة بناء المغرب الكبير للعصر الوسيط والذي عرف أوَجَّه وأكثر فتراته إشراقاً في عهد المرابطين يقومون فقط بمحاسبة النوايا، وهي عملية تفي بغرض سياسي آني، وهو ثَنْي المغرب عن استرجاع الصحراء وسبتة ومليلة والتضييق عليه فيما يخص ترسيم حدوده البحرية.
إن استعمال التاريخ لمحاكمة مقاصد سياسية مشروعة حديثة تنخرط في ظل حركة التحرر من الاستعمار ينطوي على محاولة يائسة لقلب الأدوار ليصبح من يطالب بالتحرر هو من له نوايا استعمارية دفينة.
لكن رُبَّ ضارة نافعة؛ من يتهمون المغرب بنوايا توسعية يؤكدون مشروعية مطالبة المغرب بالصحراء وكونها جزءاً منه منذ القرن الخامس الهجري (الحادي عشر للميلاد) أي منذ نحو عشرة قرون. هل هذا يعني أن للمغرب الحق في المطالبة مثلاً بموريتانيا والأندلس؟ لا يستقيم هذا الطرح بتاتاً ما دام أن هذه الدول أصبحت مستقلة وذات سيادة ومُعترَفاً بها دولياً، موريتانيا منذ الستينات من القرن الماضي، والأندلس منذ سقوط غرناطة سنة 1492. أما الصحراء المغربية التي استرجعتها الرباط من الاستعمار الإسباني عام 1975، فكانت مسجلة على لائحة تصفية الاستعمار منذ 1964، وقررت محكمة العدل الدولية أنها لم تكن أرضاً خلاء، كما كان يدعي الجنرال فرانسيسكو فرانكو، مشددة على أنه كانت هناك روابط بيعة بينها وبين ملوك المغرب على مر العصور.
لننظر في تاريخ الدولة المرابطية لنرى كيف تؤكد أحداث 1040 - 1147 ميلادية مشروعية وشرعية الوجود المغربي في الصحراء المغربية.
بدأت الدولة المرابطية كحركة دعوية إصلاحية اعتمدت أولاً على وحدة قبائل صنهاجة الأمازيغية والتي كانت تنتشر بطونها من نهر السنغال جنوباً، ومناطق المسيلة وتري ومله بالجزائر، والأطلس والريف بالمغرب؛ بعدها سيطرت الحركة على الطرق التجارية، وتقوى عودها العسكري لتصبح دولة إسلامية تشمل موريتانيا الحديثة وغرب الجزائر والمغرب بصحرائه والأندلس إلى حدود قشتالة ونَبَرَّة.
في الثلاثينات من القرن الحادي عشر، طالب يحيى بن إبراهيم، قائد قبائل صنهاجة الأمازيغية، والتي تضم قبائل لمتونة (أجداد سكان الصحراء الحاليين) وجدالة وكزولة ومصمودة وغيرها، من عبد الله بن ياسين، أحد تلامذة وگاگ بن زلو اللمطي والذي كان مرابطاً بقرية أكلو على البحر غرب تيزنيت مصاحبته إلى الصحراء الكبرى وبلاد السودان الغربي (الساقية الحمراء حالياً، ووادي الذهب، وموريتانيا الحالية ومالي لتعليم دين الإسلام).
بعد إخفاقات أولية، تمكن عبد الله بن ياسين من بناء رباط قويم على نهر السنغال وقام بتطبيق الشريعة وإقامة الحدود وتشدَّد في معاقبة من كان يظنهم خارجين عن الدين ووحَّد قبائل لمتونة وكدالة ومسوفة وغيرهم (القاضي عياض، «الأدب المغربي في عهد المرابطين) بناءً على تنظيم محكم قِوامه العقيدة والدعوة. الجهاد الذي باشره ابن ياسين قاده أولاً إلى مملكة غانا لاسترجاع أوداغست (شرق موريتانيا) الحالية وأجزاء من وادي النيجر؛ رغم موت يحيى بن إبراهيم وبعده يحيى بن عمر، ذاع صيت المرابطين؛ فقاموا تحت القيادة الدينية والعسكرية لابن ياسين بضم الكثير من بلاد السودان الغربي من جنوب وادي نون مروراً بالساقية الحمراء ووادي الذهب الحاليين وتيرس زمور وأدرار وغيرها حتى نهر السنغال جنوباً ونهر النيجر شرقا.
ربما الحدث المؤسِّس لسيطرة المرابطين على المغرب الأقصى هو فتح بلاد سوس سنة 445 هـ - 1054م حين طلب ابن زلو اللمطي من ابن ياسين مساعدة أهل سوس في وضع حد لسيطرة الزناتيين المغراويين، وهي المعركة التي انتهت بسقوط سجلماسة في أيدي المرابطين و«تطهيرها» من مظاهر «المنكر» (حسب الفهم الأصولي للدين عند ابن ياسين) (البكري، «المسالك»).
بعد السيطرة على انتفاضة سجلماسة ضد التشدد الديني المرابطي، وكذا على تمرد قبيلة جدالة ضد سيطرة اللمثونيين على المواقع الحساسة في الحكم، توجه القائد العسكري أبو بكر بن عمر (الذي خلف أخاه يحيى) إلى بلاد سوس، سنة 448 هـ/1056م. هنا بزغ نجم القائد العسكري يوسف بن تاشفين الذي كان عبد الله بن ياسين قد عيّنه حاكماً على سجلماسة والتي انطلاقا منها سيطر على تارودانت وماسة وبلاد جزولة (الصلابي «فقه التمكين عند دولة المرابطين»).
بعد بلاد سوس، توجه المرابطون إلى أغمات فقتلوا أميرها لقوط المغراوي وسيطروا عليها، وأصبحت قاعدتهم العسكرية وبعد ذلك توجهوا لمحاربة البرغواطيين قرب الرباط، وهي المعارك التي أودت بحياة عبد الله بن ياسين سنة 1059 (العبادي، «تاريخ المغرب والأندلس» وجمال بامي «عبد الله بن ياسين»).
بعد مبايعة أبي بكر زعيماً دينياً (لخلافة عبد الله بن ياسين) وكذا قائداً عسكرياً قام بالسيطرة على زناتة ومكناسة ولواتة ورجع إلى أغمات وأدى الاكتظاظ الذي عرفته هذه المدينة إلى التخطيط لبناء مدينة جديدة تسمى مراكش، قريبة من القبيلة الأصل، لمتونة، أجداد الركيبيين وتكنة (والتي تمتد جنوباً من وادي نون إلى رأس بوجدور حالياً) ومن معاقل مغراوة وبرغواطة وعمارة المسيطر عليها حديثا. بعدها نشبت خلافات بين لمتونة وجدالة فذهب بنصف جيشه لإصلاح ذات البين بين القبيلتين الصحراويتين وترك النصف الآخر يقوده يوسف ابن عمه لإخماد ثورات القبائل المتمردة في بلاد زناتة ومغراوة إلى الشمال، وليسيطر فيما بعد على شمال وشرق المغرب الأقصى وكذا المغرب الأوسط قبل بسط سيطرته على الأندلس.
العمق الصحراوي للدولة المغربية بقي نسبياً قوياً في عهد الموحدين (1121 - 1269)، ولكنه عرف أوجَّه عند السعديين (1510 - 1659) والذين سيطروا على الشريط الممتد بين توات وتاغازا إلى تومبوكتو وغاو وتجيني، والعلويين (ابتداءً من 1666) والذين توغلوا جنوباً عبر شنقيط إلى ما بعد نهر السنغال. غير أن التخوم الممتدة من وادي نون حتى رأس بوجدور بقيت ثابتة لا تتحول تحت حكم جميع الدول المتعاقبة، حتى المرينيين والوطاسيين. المخزن المغربي (الحكم المغربي) عبر التاريخ لم يكن له مستَقَرٌّ دون الشريط الممتد جنوباً حتى رأس بوجدور وشرقاً ما بعد تندوف وتوات.
هذا العمق هو أساس السيادة المغربية على الصحراء والذي هو عمق تاريخي وسياسي وثقافي وجغرافي وجيوستراتيجي.
إن رابطة الوصل بين المغرب وعمقه الأفريقي منذ المرابطين وحتى دخول الاستعمار الإسباني في الثمانينات من القرن التاسع عشر، هو ما يسمى حالياً الصحراء المغربية. هذا هو كنه وشرعية الوجود المغربي في الصحراء.