د. ياسر عبد العزيز
TT

«يريدون حرية الكلام فقط لأنفسهم»!

كان الرئيس الأميركي الأول جورج واشنطن (1732 - 1799) هو الذي قال «إذا سلبنا حرية التعبير عن الرأي؛ فسنصير مثل الدابة البكماء التي تقاد إلى المسلخ»، وقد وفر هذا الإيمان البادي بحرية الكلام إرادة وزخماً كافيين تماماً لكي ينجز التعديل الأول في الدستور الأميركي. وهو التعديل الذي يبقى حتى يومنا هذا أحد أهم المنطلقات الفكرية المؤسسة لحرية الصحافة والتعبير على الصعيدين الغربي والعالمي. ولكن لأن الشيطان يكمن عادة في التفاصيل؛ فإن مسارات حرية الكلام لم تبقَ سلسة وآمنة طوال الوقت، ومع كل تغيير سياسي واجتماعي مؤثرين كان الحديث عن صيانة هذا الحق محل جدل وصدام ملحوظين.
يوم الجمعة الماضي، رفضت محكمة مختصة في كاليفورنيا شكوى تقدم بها الرئيس السابق دونالد ترمب ضد موقع التغريدات القصيرة «تويتر»، الذي حظر القائمون عليه حسابه بداعي أنه يروج أخباراً «مضللة» ويحرض على العنف.
يتهم ترمب «تويتر» بـ«انتهاك حقه في حرية التعبير الذي يضمنه الدستور الأميركي»، بينما يرى القاضي جيمس دوناتو، الذي أصدر الحكم، أن «تويتر» شركة خاصة، وأن نظامها الداخلي يعطيها الحق لحظر من تشاء وفق السياسات التي تلزم مستخدميها بها، فيما ينسحب الحق الدستوري في حماية حرية الكلام على القيود التي يمكن أن ترسيها الحكومة فقط وليس أصحاب الشركات الخاصة.
وفي الشهر الماضي، أعلن الملياردير الأميركي المثير للجدل إيلون ماسك أنه أبرم صفقة يستحوذ بمقتضاها على «تويتر»، ورغم أنه غرد في الأسبوع الفائت قائلاً إنه سينجز تحسينات وسيجري تغييرات على هذه المنصة المؤثرة؛ من بينها زيادة أعداد المستخدمين، وتعزيز الربحية، وتطوير التقنية والتصميم والبرمجة، فإنه كان قد أسس لإقدامه على هذه الخطوة عشية إنجازها بالقول إن هدفه الأساسي هو «تعزيز حرية الرأي والتعبير».
وبسبب هذا الإعلان ذي السند الأخلاقي، راح كثيرون يؤيدون تلك الخطوة، ويعدونها مكسباً للحريات العامة، في وقت كان فيه «تويتر» وأقرانه يثيرون استياء ومعارضة على أكثر من صعيد، بداعي انتهاج سياسات مزدوجة في حظر الكلام وإتاحته وفق توجهات سياسية انقسم حولها المستخدمون.
فهل فعلاً يريد ماسك الاستحواذ على «تويتر» من أجل تعزيز حرية التعبير؟ وهل يقدر على ذلك؟ وما حدود حرية التعبير؟ وما تعريفها المحدد؟ وهل يمكن أن يكون هناك تعريف جامع لها يحظى بتوافق غالبية المستخدمين الذين يتوزعون على أصقاع العالم المختلفة ويتأثرون بثقافات وسياقات متباينة؟
في يونيو (حزيران) الفائت، نقلت «فورين بوليسي» عن مؤسسة «جستيشيا» (Justitia) الدنماركية ما قالت إنه نتائج بحث عالمي أجرته على عينة ضمت 50 ألف شخص في 33 دولة، ولقد أظهرت نتائج هذا المسح تباينات واسعة بين الجمهور العالمي فيما يخص مفهوم حرية الكلام وحدوده.
وعلى سبيل المثال، فإن 91 في المائة من المستجوبين في الدنمارك والسويد أظهروا تسامحاً مع التصريحات الداعمة للعلاقات «المثلية»، بينما لم يؤيد حماية تلك التصريحات سوى 27 في المائة فقط من المستطلعة آراؤهم في باكستان. وبينما أظهر 72 في المائة من الأميركيين قبولاً لتحمل إهانة علمهم الوطني، لم تزد تلك النسبة عن 16 في المائة في تركيا و18 في المائة في كينيا. وفي الوقت الذي يؤيد فيه 75 في المائة من الباكستانيين تقييد التصريحات التي تستهدف معتقدهم الديني، فإن هذه النسبة لا تزيد عن 37 في المائة في بريطانيا وفرنسا.
تعطينا تلك النتائج تصوراً متكاملاً عن حالة مرتبكة ومتباينة فيما يخص تعريف حرية الكلام وتحديد نطاقها من جانب، وما يتصل بالموقف منها من جانب آخر، إلى حد أن «فورين بوليسي» لم تجد عنواناً للتعبير عن هذا التضارب الذي أظهرته استجابات المستطلعة آراؤهم عبر الدول الـ33، أفضل من: «الناس يريدون حرية الكلام لأنفسهم»!
تنضم نتائج استطلاع «جستيشيا» إلى المئات من نتائج مسوح أخرى أظهرت هذه التباينات الحادة خصوصاً فيما يتعلق بالمواقف من «المثلية» و«إهانة المعتقد الديني» و«الإساءة إلى العلم الوطني»، ويبدو أن الموقع الجغرافي وطبيعة النظم الحاكمة والهوية الثقافية للمجتمعات كانت عوامل حاكمة في تحديد نتائج الاستجابات في معظم الحالات إن لم يكن كلها.
حرية الرأي والتعبير مفهوم عالمي، لكنه يخضع للتفسير الوطني والإقليمي، حتى إنه في بعض الدول كان المبحوثون يعلنون أنهم «يريدون حرية أقل مما لديهم».
لقد ظلت الحكومات الوطنية قادرة في الغالب على تحديد نطاق الحق في حرية التعبير في وسائط «الإعلام التقليدي»، واليوم يريد مالكو شركات التكنولوجيا العملاقة أن يحتكروا الحق في تعيينه وتفعيله وفق ما يعتقدون أو ما يخدم مصالحهم، وهو أمر سيظل محل تباين وجدل كبيرين.