حنا صالح
كاتب لبناني
TT

تصويت عقابي وليس مقاطعة!

عشرة أيام هي الفترة الفاصلة عن الخامس عشر من مايو (أيار)، الموعد المحدد لانتخاب برلمان 2022. هي انتخابات اتفق اللبنانيون على وصفها بالمحطة المفصلية، تنعقد ولبنان المحاصر بأقسى الانهيارات، على مفترق خطير بين مشروعين؛ مشروع استعادة الدولة المخطوفة بالسلاح، ومشروع المضي في اقتلاع البلد واستتباعه إلى «محور الممانعة» بقيادة ملالي طهران!
فإلى أين ستفضي برلمانيات 2022؟ هل صحيح التعامل المستفز بأن لبنان الذي بات في الحضيض والسلطة فيه مستتبعة وشعبه منهك، هو في موقع «الغنيمة» للفريق الممانع؟ مع إطلاقهم العنان للغرائز المذهبية، وتجاهل تداعيات المنهبة والبؤس، والقفز فوق الإبادة الجماعية في جريمة تفجير بيروت نتيجة التعطيل القسري للتحقيق العدلي، وصولاً إلى جريمة طرابلس مع تجاهل المسؤولية عن بقاء العشرات تحت البحر، بعد 10 أيام على آخر جرائم «قوارب الموت» والاتجار بالبشر، التي اعتبرها ميقاتي قدراً! أم أن ناس البلد وأهله، يمكن أن يولوا اهتمامهم لرأي آخر بلورته منذ البداية «ثورة تشرين» بأن الإنقاذ ممكن، ومدخله إعادة تكوين السلطة. إذذاك يكون متاحاً الذهاب بعيداً لكبح الانهيارات وحصر الإمكانات والقدرات وتحديد الخسائر، لبدء حلّ مشاكل عميقة حتّمتها سياسات وممارسات إجرامية، أملت على كثيرين تفضيل القفز إلى «زوارق الموت» هرباً من جحيم على البر بدا لا فكاك منه نتيجة إغراق لبنان في الفقر والعوز والجوع.
حتى فترة قريبة ساد جو مفاده أن التغيير مستحيل، وتقدم جوٍ مبرمج من التيئيس زرع الشك في النفوس، كترداد مقولة إن «لبنان هيك» عصي على الإصلاح، وأن نظام المحاصصة الغنائمي أوجد تفاهمات وآليات سياسية حلّت مكان الدستور؛ ما رسّخ سطوة الطبقة السياسية، ورغم نجاح ثورة تشرين في تعريته فهو لم يسقط. وتفاقم هذا المنحى مع انخراط حسن نصر الله في العملية الانتخابية، ومتابعته تفاصيل القوائم وأحجام تمثيل أطراف الممانعة، ليترافق ذلك مع تهديدات «حزب الله» بأن النتائج أياً كانت لن تمس تحكمهم المستند إلى السلاح! في حين لم يعد سراً أن هاجس «محور الممانعة» الاستئثار بثلثي البرلمان ما يمنح مشروع استكمال اقتلاع البلد غطاءً دستورياً، فتكون الهيمنة الخارجية ترجمة لما باحت به الانتخابات!
وتم ترويج «أحكام» من نوع أن البلد من حصة النظام الإيراني، ارتباطاً بمباحثات فيينا وما ستتركه من تأثير. ويتم التذكير بأن سيطرة دمشق بعد العام 1990 كانت مكافأة لنظام الأسد إثر مشاركته في حرب الخليج، ويمكن أن يتكرر الأمر اليوم لمصلحة طهران (...) ولفت المنطق إيّاه إلى الانتخابات العراقية ليقول، إن العملية السياسية معطلة بضغط من طهران رغم مرور 6 أشهر على انتهائها! فعمم هذا الضخ جواً سلبياً يجمع خليطاً من اليائسين والهامشيين وفئة من الملتحقين التابعين الذين لا يتحركون إلا كرمى لعيون الزعيم!
نفتح مزدوجين كي نشير إلى أن قرار سعد الحريري «تعليق» عمله السياسي، ومنع الترشح باسم «المستقبل»، توسع إلى دعوة أهل السنة والجماعة لمقاطعة الاقتراع، وراجت مقولة أن المقاطعة «وفاء» لرئيس الحكومة السابق! في تجاهل كونه صاحب القرارات الخاطئة، و«التسويات» المذلة مع «حزب الله» كانتخاب ميشال عون رئيساً، إلى دوره في تغطية تغول الدويلة تحت يافطة «ربط نزاع»، ودوره في تلزيم حقيبة المالية للثنائي المذهبي؛ ما أفقد رئاسة الحكومة الكثير من صلاحياتها مع منح هذا الفريق حق الفيتو، ليتقدم مشروع «المثالثة» خطوة كبيرة مع التوقيع الثالث! إلى دوره في حماية المدعى عليهم في جريمة تفجير المرفأ، فبدت الدعوة للمقاطعة تسديد فواتير لاحقة لـ«حزب الله» تمكنه من حجز مقاعد سنية مستفيداً من «بلوكاته الانتخابية» مقابل التراجع في نسبة التصويت!
المخاوف من اتساع مروحة تدخلات «حزب الله»، ومحاولته وضع اليد على نواب العاصمة مستفيداً من المقاطعة، قرع جرس إنذار مبكر! ومن النشاط الانتخابي لقوى التغيير التي قدمت بديلاً وطنياً في أكثرية الدوائر، إلى دور الرئيس السنيورة لحماية تمثيل بيروت ومنع تعديلات دستورية نتيجة انتخابات قانونية تفتقر لشرعية كاملة، ووصولاً إلى تحذير مفتي الجمهورية من خطورة الامتناع عن المشاركة أو انتخاب الفاسدين، وتفويت فرصة الانتخابات، طرأ تحولٌ نوعي قياساً لما كان عليه الوضع قبل شهر ونيف، لجهة اتساع الاهتمام بالانتخابات، وتنامي القناعة بأهمية التصويت على المجرى اللاحق للوضع العام. لقد بات من الصعب بمكان تقديم صورة قريبة لما يمكن أن تبوح به صناديق الاقتراع، فاستطلاعات الرأي ذات الصدقية، أظهرت حالات متحركة للكتل الناخبة، ولا سيما البعيدة عن الحالات الحزبية الطائفية، ويطلق عليها تسمية «البلوكات» التي يتحكمون في اقتراعها وكيفية توزيع الصوت التفضيلي لأفرادها على المرشحين!
انعكس الوضع المتحرك تراجعاً ملموساً في تأثير الدعوات إلى المقاطعة على المستوى الوطني، وبالأخص على الشارع السني، فبدت هذه الدعوات وجهاً آخر من الممارسة العبثية لمن علّق عمله السياسي وشعاره «من بعدي الطوفان»(؟!) وبالمقابل، برزت حالة من اللايقين في المناطق الخاضعة لهيمنة «حزب الله»؛ مرة بمواجهة مرشحي الثنائي المذهبي من قبل المواطنين الذين فتحوا لهؤلاء المرشحين دفاتر «إنجازاتهم»، ومرة ثانية بارتفاع نسبة من لم يحسموا وجهة اقتراعهم في سعي للإبهام تجنباً للمضايقات.
يفسر التطور الجديد حملات التعبئة الطائفية التي جمعت أطراف «نظام المحاصصة الطائفي»؛ رؤساء الأحزاب والكتل النيابية والائتلافات نزلوا إلى المعترك لتتسع الاستهدافات، وبزّ «حزب الله» الآخرين عندما «أقنع» 3 مرشحين شيعة في دائرة بعلبك الهرمل بالانسحاب، ليصنف بعدها النائب محمد رعد «المقاومة» بأنها دين (...)، بما يعني تجريم كل من يترشح ضد لوائح الثنائي المذهبي في أخطر منحى تكفيري يحمل مخاطر هدر دم المرشحين المعارضين! وهو أمر لم تعرفه أي انتخابات سابقة علما بأن الدويلة دأبت على الاتجار بدماء قتلاها عند كلِّ منعطف. وأرفقت هذه الحملات بضخ «المال السياسي» وتوزيع مساعدات غذائية ومحروقات وأدوية لمئات ألوف العائلات مع استغلال المقدرات العامة، ليعكس ذلك القلق من احتمال المشاركة الكثيفة والتصويت العقابي الذي سيحدُّ من حجم عمليات الرشوة والتزوير.
في هذا السياق فالانتخابات العامة، الأولى بعد ثورة «17 تشرين» وبعد 21 شهراً على تفجير بيروت، وجريمة التليل في عكار إلى جريمة «زورق الموت» وقبل ذلك التفجيرات المجهولة المعلومة جنوباً، تتيح الفرصة للناخبين لأن يكون الحكم في الاقتراع الصحيح البناء على «ماضي المرشحين ومواقفهم السابقة، ما فعلوا وما تخلفوا عن فعله» وفق رأي الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، وبالتالي فإن المقاعد النيابية وحجم التصويت وتوزعه، ستعكس الانقسام العمودي في البلد، واستحالة جعل لبنان على قياس «المقاومة» – الميليشيا، التابعة لطهران!